في خضمّ الصراعات المشتعلة على مستوى منطقة الشرق الأوسط، لا يزال البعض يفضّل الحديث عن أن لبنان نجح في البقاء بعيداً عنها، إنطلاقاً من مظلة دولية حريصة على عدم إنفجار المواجهات فيه، كما هو الواقع في البلدان المجاورة، من دون تقديم الأدلة الواضحة على هذا الأمر، في حين أن التوجهات السياسية تثبت يوماً بعد آخر أنه في قلب اللعبة نفسها، لكن بأدوات مختلفة، تفرضها الوقائع التي تؤكد حسم النتائج في حال الذهاب إلى خيار "العسكرة"، على عكس هامش التحرك الواسع في ساحات أخرى، لكن ماذا عن الفشل السياسي الذي هو أساس المقارنة؟

قبل أيام قليلة، خرج أحد الوزراء إلى الحديث عن أن الحكومة الحالية، برئاسة ​تمام سلام​، هي التعبير الأوضح عن فشل الطبقة السياسية في البلاد، الأمر الذي يفرض التوقف عند مجموعة الأخطار المحدقة، لا سيما أن منسوبها يرتفع يوماً بعد آخر، في ظل الغموض الذي يعتري مستقبل المنطقة على كافة المستويات.

بالتزامن مع ذلك، لا يزال البعض يراهن على هامش واسع من "العبث" السياسي، الذي يقوم على نظرية التسويق بهدف كسب المزيد من التأييد الشعبي، لا أكثر ولا أقل، على قاعدة أن الإنتخابات البلدية أثبتت أن جمهور التيارات والأحزاب غير راض عن خطابها، من دون الذهاب إلى قراءة نتائجها من الجانب الآخر، حيث هناك قسم أكبر من الناخبين لم يجد نفسه معنياً بالمشاركة في هذا الإستحقاق بأي شكل من الأشكال، لكن ماذا ينتظر هذه الساحة؟

في المشهد العام، يبدو أن لبنان، في المرحلة الراهنة، هو في مرحلة الوقت الضائع، حيث يستطيع الجميع القيام بأي أمر من دون الوصول إلى أي نتيجة، بانتظار جلاء الصورة التي ستكون عليها المنطقة، بالتزامن مع المساعي إلى تحسين الأوراق والشروط للإستفادة منها عندما يحين موعد القطاف، لكن في الوقت نفسه تظهر القوى المحلية الفاعلة عاجزة عن القيام بأي مبادرة، من دون التنبه إلى التداعيات التي قد تترتب على ذلك، فالبعض يعتبر أن رفع مستوى الخطاب المذهبي والطائفي هو الخيار الأفضل.

ما تقدم لا ينحصر بفريق دون آخر على ضفتي قوى الثامن والرابع عشر من آذار، فالجميع غارق في الدوامة نفسها، أما الجانب المستهدف من الناخبين فيمكن جذبه من خلال الشعارات "الرنانة"، في حين أن القسم المراقب لا يتحرك، وفي حال قرر ذلك يمكن محاصرته بسرعة البرق، فهو قد يتحول إلى "خائن" أو "عميل" ضمن بيئته، وبالتالي يصبح مهدداً بدل أن يكون عاملاً مساعداً على التقدم، الأمر الذي يدفعه إلى التراجع والإنكفاء، ولكن هل فعلاً لبنان بعيد عما يجري من حوله؟

في حقيقة الأمر، لبنان في قلب الحروب الدائرة في المحيط، حيث تكفي أزمة النازحين التي ترخي بثقلها للتأكيد على ذلك، في ظل الهواجس الديمغرافية التي تأخذ أبعاداً طائفية في الخطاب السياسي، بالإضافة إلى التداعيات الإقتصادية التي تبرز من خلال تراجع معدلات النمو، من دون إهمال الآثار الأمنية الناجمة عن هذه الظاهرة، حيث لبنان من أبرز الساحات المهددة من قبل الجماعات الإرهابية.

بالتزامن، قد يكون المعيار الأوضح هو واقع النظام السياسي، فالحروب في المنطقة ليست ذات أبعاد عسكرية وأمنية فقط، بل سياسية بالدرجة الأولى، يراد من خلالها تبديل التركيبات القائمة بأخرى بدأت معالمها في الظهور عبر صور الحرب على الإرهاب المتعددة، أما في لبنان فإن فشل الطبقة السياسية يأخذ البلد إلى جملة من التساؤلات المصيرية: هل نحن ذاهبون إلى مؤتمر تأسيسي؟ هل تكون الفيدرالية خياراً لبنانياً؟ ماذا عن قانون الإنتخابات النيابية؟ ماذا عن مطالب إعادة توزيع الصلاحيات بين مراكز القوى الطائفية؟ وما هي الإستراتيجية الدفاعية باتجاه العدو؟ من هو هذا العدو أصلاً؟

كل الأسئلة السابقة، هي الصورة الأساسية عن المخاض الذي تمر به منطقة الشرق الأوسط، حيث تستخدم جميع القوى كافة الأسلحة السياسية والإقتصادية والعسكرية لتحقيق الإنتصار فيها، ومن ضمنها عوامل الفتنة والعقوبات الإقتصادية، بالإضافة إلى التنظيمات الإرهابية، وغيرها من الملفات التي تفتح دفعة واحدة، من دون معرفة الأسباب أو النهايات التي من المفترض أن تكون عليها، وهي مطروحة في كل الدول المحيطة بطريقة أو بأخرى.

في المحصلة، لبنان ليس بعيداً عما يجري حوله، هو ساحة من ساحات المعركة، لكن أدوات المواجهة مختلفة، دور الجانبين العسكري والأمني أقل حدة، في حين أن العوامل الإقتصادية والسياسية والإجتماعية طاغية، ما يوحي بأن الصورة الحالية ستكون من الماضي عند إنطلاق مرحلة التسويات الغامضة.