يخطىء من يصوّر الأزمة اللبنانية أنها مشكلة انتخاب رئيس للجمهورية، فهي أعقد وأعمق من ذلك، خصوصاً بعد ربطها بالصراع الدائر في المنطقة بين التحالف الأميركي - "الإسرائيلي" وأتباعه من "عرب الاعتدال"، وبين دول وقوى المقاومة من ناحية ثانية، من خلال سياسات فاشلة وعقيمة رافقت الحرب الكونية ضد سورية، خلال فترة رئاسة ميشال سليمان.

أولى الجرائم التي ارتُكبت بحق دور وموقع رئاسة الجمهورية، كان رفع شعار "النأي بالنفس"، ليس بهدف النأي بلبنان عن النيران التي بدأت تشتعل في المنطقة، بل كان نأياً عن الالتزام بالاتفاقات والمعاهدات المعقودة بين لبنان وسورية، والانحياز إلى ما سُمّي زوراً "الثورة" في سورية، تعبيراً عن التبعية للقوى الدولية والإقليمية التي تآمرت لتدمير سورية ودولتها ومؤسساتها، خدمة للمشروع الصهيوني في المنطقة، وتخلُّصاً من الأخطار التي تهدد مستقبله.

كانت تلك الخطوة كلمة السر في انخراط قوى لبنانية أساسية في الحرب على سورية، وفي تسليم قرار هذه القوى لـ"صديقهم جيفري فيلتمان" وغيره من ممثلي الإدارة الأميركية، وهكذا تم ربط أصغر التفاصيل اللبنانية بإرادة هذه الإدارة وأتباعها في المنطقة. ومع انشغال واشنطن بانتخاباتها الرئاسية المقبلة، وضمور الدور الفرنسي، باتت قيادة جماعة أميركا في لبنان بيَد المملكة العربية السعودية، التي تقاتل على أكثر من جبهة، هي وحشود "تكفييريها الوهابيين"، بعد أن قرر الأميركي أن يقاتل بهم، ليتفرغ للتحديات التي تجابهه في الشرق الأقصى وبحر الصين، وجاء انقلاب ميشال سليمان على دوره الوسطي المفترَض، وزياراته المتكررة للسعودية، ليجعلا موقع الرئاسة نقطة تجاذب حادّ في الصراع الداخلي اللبناني، ويُعطيا أملاً للمملكة السعودية بإمكانية بقاء قبضتها مُمسكة بالقرار اللبناني ومواقعه الرسمية، على أمل جعل لبنان إمارة مستتبَعة للأهواء السعودية، أو للمقايضة به عندما يحين وقت التسويات، خصوصاً في خياراتها الإقليمية الأبرز، بما فيها سعيها إلى التحالف مع العدو "الإسرائيلي"، لعل هذا العدو يضمن بقاء الحكم السعودي في ظل الرياح الهوجاء التي تعصف بالمنطقة.

إلا أن ما لم يكن بحسبان جماعة أميركا في لبنان، خسارة رهاناتهم الأميركية والسعودية والسورية، فالأميركي بات مكشوفاً في علاقاته بقوى الإرهاب التي يدّعي محاربتها، وهو مرتبك أمام واقع انتهاء مرحلة التفرُّد في قيادة العالم، ويكفي أنه عقد الاتفاق النووي مع إيران بما يخالف مطالب حلفائه وأتباعه، كما أنه يقف عاجزاً أمام التحديات النووية المقصودة التي تواجهه بها كوريا الشمالية على مشارف توسع صراعه مع الصين في آسيا وأفريقيا، وبالتالي لا مفرّ أمامه غير التفاهم مع الروس حول النزاعات الدولية المحتدمة.

أمام الرهان على انتصار المؤامرة في سورية، فقد سقط وسقطت معه كل شعارات ادعاء "الثورة" فيها، واليوم، حتى الأعمى بات يرى كيف أن أميركا تقرر نيابة عن "ثوّار" سورية؛ تبيع وتقايض مع الروس على رقاب من كان يدّعي "ثورة الحرية"، فكشفت الأيام أنه مجرّد مرتزِق عند السعودية وقطر، وأن مرجعيته ليست في عقله وضميره، بل في واشنطن وأنقرة وغيرها. في المقابل، تشهد التطورات عودة متلاحقة للاعتراف بالدولة السورية، ليس فقط أميركياً، بل تركياً وخليجياً وأوروبياً، خصوصاً أن الدولة السورية هي صاحبة القرار واليد الطولى في الميدان.

هكذا تجد السعودية نفسها وحيدة في مواصلة خوض حروب تدمير المنطقة، في سورية والعراق واليمن، وفي تعطيل محاولات التفاهم بين اللبنانيين. في العراق، تسير الرياح باتجاه إلغاء كل آثار الاجتياح "الداعشي"، وفي سورية أدى فشل الوكلاء إلى تورُّط الأميركي مباشرة في تغطية عمليات "داعش"، ولهذا الانكشاف ثمن سلبي ستدفعه أميركا من دورها العالمي مباشرة، وفي اليمن باتت السعودية المتجبّرة على فقرائه، تشكو من "عدوانهم" عليها، بعد أن نقلوا حربهم إلى داخل المناطق التي سبق أن انتزعتها السعودية منهم؛ في جيزان ونجران وعسير.

يبقى لبنان؛ أحد آخر المواقع التي يحلم حُكّام السعودية بالهيمنة على قراره، وبغض النظر عن حالة الإفلاس السياسي والمالي التي تضرب جماعة أميركا والسعودية في لبنان، فإن تمسُّك السعودية بدورها في اختيار رئيس للجمهورية اللبنانية، كما جرت العادة والتقليد، بات أمراً غير قابل للصرف، ليس لأن الخيارات السعودية سقطت في لبنان والمنطقة وحسب، بل لأن حُكّام السعودية وضعوا حاضرهم ومستقبلهم في سلة التحالف مع العدو الصهيوني، وهو ما يجعل أي طامح للوصول إلى قصر بعبدا، أو إلى أي موقع رسمي، يترك مسافة بينه وبين السياسة السعودية، فما بيننا وبين "إسرائيل" ليس إلا الحرب، ومن يختار العلاقة مع "إسرائيل" لن يكون مصيره غير مصير العملاء، أما العقدة السعودية التي تعطّل انتخاب المرشّح الرئاسي الأكثر تمثيلاً لبيئته، فهي نسخة شبيهة بالتهديدات والتدخلات "الإسرائيلية" في الشأن اللبناني، ولا حل لها إلا بالردع وصلابة الموقف.