انجلى غبار المعركة الرئاسية في الولايات المتحدة الأميركية عن فوز الثري الأميركي دونالد ترامب الذي عرفه العالم بمواقفه المثيرة للجدل، ملحقاً هزيمة مدوية بالمرشحة الديمقراطية وزير الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون.

ثمة عناصر عديدة تسببت بهزيمة كلينتون، أولها أن عدداُ من ولايات الجنوب الأميركي، ما تزال العنصرية متفشية فيها، وخصوصاً بالنسبة للمرأة، ولهذا انحازت إلى جانب المرشح -الرجل.

ثانيها: أن الناخبين من أصل افريقي لم يصبوا كما هو متوقع بأغلبية ساحقة إلى جانب هيلاري، وخصوصاً أنه في عهد الرئيس اوباما ذي الأصول الافريقية، حصلت العديد من الحوادث واعمال القتل ضد الزنوج، بما ذكرهم بالأعمال العنصرية التي كانت تجري ضدهم في ما مضى، ودور العصابات العنصرية مثل كوكلاس كلان وغيرها.

ثالثها: سلسلة الفضائح التي لاحقت المرشحة الديمقراطية، سواء بشأن تسريب وثائق الخارجية الأميركية، أو من خلال اعترافها في مذكراتها بأن واشنطن هي من اخترع "داعش" لتقوم بالحروب بدلاً منها في عدد من دول العالم، وخصوصاً في الشرق الأوسط وتحديداً في سورية، وهو ما انعكس أيضاً خارج كل التوقعات بتحييد أصوات المسلمين، وعدم الإقبال على تأييدها رغم كل العنصرية التي أبرزها دونالد ترامب ضد الإسلام، لا بل أنه نال نصيباً من المسلمين.

رابعها: وكانت ضربة قاصمة لهيلاري بإعلان ولي ولي العهد السعودي محمد بن سلمان وهو في طريقه إلى الولايات المتحدة في آخر زيارة له عن تمويل الرياض لمعركة كلينتون بأكثر من عشرين بالمئة من تكاليف حملتها الانتخابية. وخامسها: وهو من الاهمية بمكان، شرهها لتلقي الهدايا.

وسادسها: الدور الروسي البارز الذي لعب إلى جانب ترامب، بسبب سياسة هيلاري المستفزة لموسكو إبان تسلمها وزارة الخارجية، وهو ما جعل الرئيس بوتين يفصح علناً عن هذا الموقف.

إذا كانت هذه الأسباب وغيرها الكثير تسبب في هزيمة كلينتون التي كانت استطلاعات الرأي الاميركية تتوقع فوزها، فإن هذه المعركة تركت ندوباً في الجسد الأميركي لا يمكن علاجها سريعاً، لأنها كشفت الشرخ الخطير في النظام الأميركي على شتى المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأن العباءة الديمقراطية التي تتغنى بها بلاد العم سام، تزرع كل أنواع الشقاق والإنقسام، وقد تمهد لزلزال، لا يعرف أحد كيف يبدأ وينتهي، ويلحقها بالإمبراطوريات القديمة التي اندثرت.

وفعلاً، هذا ما شرع فيه عدد كبير من الباحثين الأميركيين، الذي أكدوا أن هذه الانتخابات، تميزت بأنها الأكثر بذاءة في التاريخ الأميركي، مما جعل الكثيرين ينبهون مما وصفوه بـ "الحرب الأهلية"، وعودة حروب قبائل وعصابات وشركات الجنوب والشمال.

قد يقول كثير من منظري "الديمقراطية" الحديثة، ويساريي الليبرالية المتوحشة الذين تحولوا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، أن في ذلك مبالغة، وزاعمين أن "الديمقراطية" الأميركية تعالج أمراضها وتجدد نفسها، لكن الواقع هو غير هذه النظريات، فعلماء اجتماع الأميركيون بدأوا يطرحون كما أسلفنا "خطة سلام" أهلية، بسبب الخلل الفادح الذي برز في النظام الرأسمالي الأميركي المتوحش الذي أفسح في المجال لفاسدة كبيرة من وزن هيلاري كلينتون، ومجنون متهور، كحال دونالد ترامب من الوصول إلى خوض السباق لاحتلال البيت الأبيض.

وقد عكست مجلة "فورين بوليسي" هذا الواقع الأميركي المضطرب، بتأكيدها "أن المؤسسات والثوابت الأميركية تمر اليوم بأكثر المراحل صعوبة في العصر الحديث وتواجه تحديات واستهدافاً للأسس الأخلاقية للديمقراطية الأميركية".

وبأي حال، فقد أظهرت هذه الانتخابات مدى الانقسام الذي نخر المجتمع الأميركي، ومدى السيئات التي يرتكبها الحزبان الحمهوري والديمقراطي في عمليات اختيار مرشحيهما، ومدى تحكم الرأسمال المتوحش بالنظام السياسي الأميركي، الذي يمنع تطور الحياة السياسية نحو تعددية حزبية حقيقية يمكنها خرق هذا "التابو" الاحتكاري، للحزبين الأساسيين.

وإذا كانت الخاسرة الديمقراطية توصف بشراهة الطموح نحو المال والسلطة، فإن منتقديها يأخذون عليها عندما كانت تحتل مركز وزارة الخارجية الأميركية، جموحها، المضطرب، الذي جعلها تقوم بانقلابات فظيعة في السياسات الخارجية الأميركية، خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط، حيث ترجمت مفهوم "المحافظين الجدد" بـ "الفوضى الخلاقة"، وأخذتها النشوة إلى حدها الأقصى باسقاط معمر القذافي في ليبيا، وحسني مبارك في مصر، وزين العابدين بن علي في تونس، واستخدمت ما يطلق عليه "الإسلام السياسي" كالأخوان المسلمين، في مشروع نهجها الإجرامي، واعترفت بخلق "داعش" لأنها ظلت مصرة على اسقاط الرئيس السوري بشار الأسد، مع العلم أنها صوتت إبان كانت عضواً في الكونغرس إلى جانب جورج بوش الابن، في حربه على العراق عام 2003.

بأي حال، فإنه إذا كانت هيلاري كلينتون سيئة فإن ذلك لا يعني أن دونالد ترامب سيكون مختلفاً في نهجه الاستعماري والمنحاز بكليته للعدو الصهيوني، ذلك لأن النظام الأميركي يبقى محكوماً بمؤسسات هي من يحدد السياسة الأميركية، تبدأ بوكالات المخابرات الأميركية، وتمر بالمجمعات العسكرية الصناعية، ولا تنتهي باللوبيات وأخطرها اللوبي الصهيوني.

مهما يكن، فإن هيلاري كلينتون انتهت وتحولت إلى ذمة التاريخ، وربما يصح القول فيها "أن لعنة أسد سورية لحقتها" بحيث قد لا تجد لها مكاناً حتى في قبور التاريخ.

والخلاصة لهذه التجربة الأميركية أن الفوضى الخلاقة التي ابدعتها الذهنية الأميركية يوماً قد تبدأ تضرب في أعماق المجتمع الأميركي.. فلننتظر المستقبل القريب.