"هناك حقيقة بارزة هي أن عدد سكان لبنان يزداد بسرعة هائلة، وإذا لم تتدخل الهجرة ، كما حصل في القرن الماضي (القرن التاسع عشر) وفي الربع الأول من القرن الحالي (أي القرن العشرين)، فمن المحتمل أن يتضاعف عدد سكان لبنان فيصبح مليونين بأقل من عام، وإن المشكلة التي ستخلقها هذه الزيادة في السكان إن كان بإيجاد الغذاء الكافي لها، أو العمل المثمر، ستكون عبئاً ثقيلاً جداً على كاهل البلاد، إذا لم يُبادر إلى تحسين الموارد المستفاد منها بأحسن الطرق الإقتصادية الممكنة، وسيكون لبنان على شفير أزمة حقيقية"(1).

هذا ما خلص اليه التقرير الصادر في العام 1947 والمعروف بتقرير "جيب"، نسبة لاسم السير الكسندر جيب الذي كان يرأس فريقاً من الخبراء الأجانب، والذين استقدمتهم الحكومة اللبنانية لدراسة أوضاع الإقتصاد اللبناني بعد الاستقلال.

والواقع الموصوف في العام المذكور، هو واقع يعيشه لبنان اليوم بعد أكثر من 70 عاماً على تنفيذ الدراسة، دون أن تتمكن الدولة من استخلاص العبر منها لاخراج الوطن من الأزمات الاقتصادية. وبعد أن تجاوز عدد سكان لبنان اليوم أربعة ملايين نسمة، بعد أن كان مليوناً واحداً عند اعداد الدراسة، حيث لم تتمكّن الدولة من استدراك حجم المخاطر الاقتصادية التي يعاني منها لبنان.

بالعودة إلى الأحداث التاريخية، شهد لبنان قطيعة مع السلطات السوريّة في العام 1950، وتكدّست البضائع في الاسواق اللبنانية بعد اقفال الحدود بين البلدين، ومن ثم شهد لبنان أزمة سياسيّة أطاحت برئيس الجمهورية بشارة الخوري في العام 1952. وأدت هذه الأزمات إلى ارسال رئيس ​غرفة التجارة والصناعة​ في بيروت عبد الرحمن سحمراني مذكّرة الى رئيس الجمهورية ​كميل شمعون​ بتاريخ 1953 شرح فيها اسباب الأزمة الاقتصادية التي عانى منها لبنان.

واعتبر سحمراني أن "الهزّة الحالية التي يعاني منها الاقتصاد اللبناني، والتي من مظاهرها ركود السوق وضعف التصريف وكثرة التخزين في المستودعات، ليس مجرد انعكاس موقت للأحداث السياسية العالمية الطارئة، بل هي مقدمة طبيعية ومنطقيّة للعواقب الوخيمة التي نتجت عن السياسة الاقتصاديّة التي انتهجتها الحكومات اللبنانيّة المتعاقبة منذ أن حلّت القطيعة الاقتصادية بين سوريا ولبنان في 14 آذار 1950".

ولا تزال الحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال وحتى اليوم عاجزة عن حلّ معضلة الاقتصاد اللبناني، وأدّت السياسات الاقتصادية المنتهجة من قبلها الى ارتفاع الدين العام، وتحوّل لبنان إلى بلد تجاوزت فيه نسب الاستيراد نسب التصدير بشكل كبير.

بعد ذلك، حضرت إلى المنطقة بعثة تحمل اسم "ارفد" والتي كانت منوطة بوضع أول خطة استراتيجية إنمائيّة في تاريخ لبنان والشرق الأوسط، ودرست هذه البعثة الأوضاع الماليّة والانمائيّة في لبنان، ودقت ناقوس الخطر في عام 1961 بأن البلد مقبل نحو أزمة اقتصادية حقيقيّة إن لم يتم تدارك الوضع. وكان المطلوب من وزارات الماليّة والأشغال في حينه اتخاذ التدابير اللازمة لمعالجة هذه الازمات، التي تشمل المياه والطرقات.

لبنان يعاني

وأوضح تقرير البعثة أن "الطبقة السياسية في لبنان ترى بأنها ستنجح دوما ما دامت قد نجحت في السابق دون أيّ تخطيط"، لافتاً إلى ان "هذا الموقف وهذا التعبير هو موقف خطير جداً وخطير للمستقبل لانه يقضي ببعض الاشخاص الى اتخاذ مسلك غرور تجاه المساعدة الاجنبيّة ويظهر بالشكل التالي "نحن اللبنانيون لا نريد الا عمليات ذات نفع متبادل، وما دام الغرب بحاجة الينا لغايات سياسيّة فمن الطبيعي ان يتحمل جزئياً أعباء تنظيماتنا، وان يقبل بتوظيفات مالية ذات فائدة ضئيلة".

وأشارت البعثة بأن "لبنان يوحي بانه يعاني، ربما، وأنه يحتاج اكثر من اي بلد اخر لاهتمام في كيانه الاقتصادي والانساني"، مضيفة "بوسع اللبنانيين، على حساب تقشّف يرتضونه من تلقاء انفسهم وعلى حساب امانة كبرى فيما يتعلق بالامور الضرائبية، ان ينشئوا شعباً متآخيا لكي يصبح الانماء المتزن والمتجانس في بلادهم حقيقة واقعة".

وبالتالي فإن الخلاصة التي نتجت عن هذه البعثة هي أن الطبقة السياسية الموجودة في لبنان هي أحد أسباب عدم تقدم خطط الانماء في البلاد، وأن التبادل السياسي الاقتصادي مع الغرب هو الذي جعل لبنان رهينة سياسية بيد القوى الكبيرة، كما أن الحل الوحيد أمام اللبنانيين هو "التآخي" لكي يصبح الانماء المتزن والمتجانس في بلادهم حقيقة واقعة.

وغابت بعد هذه الدراسات والبعثات كل الدراسات العلميّة عن الواقع الانمائي للبنان، وبطبيعة الحال، ممّا جعله يتراجع كثيراً منذ ذلك الحين، خصوصاً بعد الحرب اللبنانية التي عاشها الوطن لمدة 15 عاماً. ومن دون دراسات جديدة، يمكن للطبقة السلطوية في لبنان، النظر في هذه الدراسات التي تجاوز عمرها نصف قرن، فربما يستخلصون عبراً لنجاة لبنان من أزماته الحقيقية.

(1)​عبد الهادي يموت​، الاقتصاد اللبناني وآفاق الشرق أوسطية والعولمة، الجامعة اللبنانية.