بين حرب عسكرية خيضت بشكل مباشر وعنيف عام 2006 وأخرى يتم التحضير لها "إسرائيلياً" على قدم وساق، يواجه حزب الله حرباً على مستوى آخر ومن نوع آخر هي حرب الديمغرافيا، المتداخلة في كثير من وجوهها ومساراتها وسياقاتها مع الحرب الناعمة التي تُشنّ عليه أيضاً بنحو متزامن، ولكنّها تختلف معها في العنوان والظروف والطبيعة المولّدة لها. وإن كانتا معاً تتحدان في الغاية الاستراتيجية والنتيجة النهائية المرجوة منهما، وهي تدمير العدو وإفساد خططه وتبديد شمله. في الحرب الناعمة تُستخدم الأدوات الثقافية والإعلامية باعتبارها أقوى الأسلحة وأمضاها لتحقيق أفضل المكاسب والأهداف، بينما في حرب الديمغرافيا فإنّ واقع العمليات ينصبّ على الجغرافيا وعلى البشر. والأدوات المستخدمة، وهي عنفيّة بدرجة رئيسيّة، تستهدف اللعب بالأرض والحدود والكتل والتجمعات البشرية. أي أنهّا توفّر بيئة مناسبة وأرضية صالحة لتغيير الخرائط والتوزيعات السكانية. ومع هذا التغيير تتبدل قواعد الاشتباك مع العدو وتتم محاصرته والضغط عليه بوقائع تجعل نموذج الحرب هذا نقيضاً للحرب الصناعية الكلاسيكية، أو أنّها تخفض مستوى المجازفة المباشرة بأعمال عسكرية تحمل في الغالب مخاطر عالية جداً .

ضمن هذا المنظور لا بد من فهم السياق الاستراتيجي للحرب في سوريا والترابط بين التطورات الميدانية وساحات الاضطراب الداخلي ومجموعة العناصر الخارجية في تدشين طريقة جديدة لاحتواء حزب الله الذي تجاوز بنجاح اختبار 2006، فكان من الضروري بالنسبة إلى القوى الإقليمية والدولية المناوئة له، تكريس كل الجهود لإعادة توزيع وتوطين أكثر من مليون شخص سيفرّون من المعارك باتجاه لبنان وسيدخلون إلى المناطق التي يتواجد فيها حزب الله.

لقد قامت العصابات والمجموعات المسلّحة المدعومة من القوى الإقليمية والدولية بانتهاكات إنسانية بشعة وأعمال ترويع وتخويف ضد السكان داخل المدن والقرى السورية للتأثير على الناس وإرغامهم على ترك منازلهم وأراضيهم والتوجه نحو دول الجوار ومنها لبنان. ولم يكن أمام السكان إلا المغادرة وشق طريق نحو الأماكن الآمنة دون أن يعلموا أنّ دولاً تنظّم عملية ترحيلهم وتهجيرهم في إطار هندسة جديدة لجغرافيا المنطقة تقوم على التقسيم وتوزيع الكتل البشرية وفق حسابات أُريد لها أن تنفذ بدقة. وهذه الدول هي من وضع المسار للنازحين الذين يتعين عليهم المرور به إن أرادوا البقاء على قيد الحياة، وهي من صاغ السياق الاستراتيجي العام لخطة كبرى تتضمن سلسلة متدرجة ومترابطة من الخطوات القاسية التي لا يستطيع النازحون استبيان الخط الفاصل بين ما هو إنساني منها وما هو مؤامرة إلا بعد سنين عديدة تكون فيها الخطة قد أصبحت واقعاً تاريخياً مؤلماً.

عملية التغيير العنفي العميق داخل سوريا واكبته الدول الراعية للتقسيم والتهجير القسري بمجموعة من القرارات والتدابير السياسية واللوجستية الضرورية. فقد ضغطت بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على ​الحكومة اللبنانية​ لفتح الحدود والتساهل في إجراءات انتقال النازحين نحو الأراضي اللبنانية، ودفعها للتخلي عن تحفظاتها الإدارية والأمنية والسياسية والسيادية، وتحمّل الأعباء الآتية دون تردد. وقعت الحكومة في فخ الضغوط السياسية الخارجية، وساهمت المنظمات الدولية الحقوقية والإنسانية في تصعيد الضغط النفسي عليها وطالبتها بتنفيذ المواثيق والاتفاقات الخاصة باللاجئين. وجاءت مواقف القوى المحلية المناهضة للنظام في سوريا وأبرزها تيار المستقبل لتغطي العملية العشوائية لتدفق النازحين . لقد وجد السوريون في لبنان، الذين وصل عددهم خلال أشهر قليلة إلى أكثر من مليون شخص بحسب إحصاءات المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، إلى مظلّة دولية حامية، وحكومة لبنانية مسهّلة، و"منظمات إنسانية"، تداعت من أقاصي العالم، تُغدق عليهم ملايين الدولارات وتؤمّن مقوّمات العيش الأساسية، وإلى أحزاب وشخصيات سياسية مرحبة لطالما كانت تنظر إلى السوريين عمالاً وكسبة بعنصرية مقيتة!

قد تكون من المفارقات العجيبة أنّ شعباً كان يضخ هذا الكم الهائل من كلمات ومشاعر الكراهية تجاه السوريين ويتعامل معهم بدونية مقززة، يستقبل بنفسه كل هذه الأعداد التي وصلت في العام الحالي بحسب إحصاءات الدولة اللبنانية وأجهزتها الرسمية إلى ما يقارب المليونين. في الواقع، لقد استطاع تيار المستقبل والقوى المتحالفة معه والتي تملك مجتمعة نفوذاً إعلامياً هائلاً وهيمنة سياسية على جماهيرها قلب الصورة النمطية التي كوّنتها سابقاً في أذهان معظم اللبنانيين عن السوريين. فتبدلّت العنصرية تجاه الوجود السوري بقدرة قادر إلى رحمة وتعاطف وحق جيرة وأخوة عرببة وإسلامية!. وسخرّت وسائل الإعلام التابعة لهذه القوى جهوداً جبّارة لنقل قصص عن معاناة بعض العائلات السورية لتعميق التعاطف معها كخطوة أولى في طريق تقبل وجود النازحين وعدم اعتراض إقامتهم في أماكن تواجدهم المختلفة.

بدأ النزوح في البداية ككارثة إنسانية تتطلّب الاحتضان من جميع المكوّنات اللبنانية ومنها حزب الله الذي تعامل بكرم منقطع النظير رداً لجميل سابق في العام 2006، وانتهى إلى كارثة سياسية وأمنية وسيادية وديمغرافية تتطلّب الحذر من تداعياته ومفاعيله. إنّ ما يضاعف من حدّة الأزمة الحالية ليس في عدم وجود أجهزة وهيئات لبنانية ملائمة للتعامل مع هذا التطور المعقّد ، بل في المخطط التقسيمي والتخريبي الذي يشكّل سبباً في إحداث اهتزازات أمنية ومشاكل جيو-سياسية عالية المخاطر تهدد الاستقرار العام في بلدان المنطقة.

إنّ ما من حرب تقع في منطقتنا إلا وتتبعها سلسلة من التحولات التي تفتح الباب على عقود من النزاعات والصراعات، خصوصاً إذا ما علمنا أنّ هذه الحرب الدائرة منذ سنوات في سوريا تعكس الإرادة الأميركية الإسرائيلية لحقيقة معروفة لا تتوقف عند حدود إسقاط النظام بل تتعداها إلى القضاء على حزب الله وجعله رازحاً تحت التهديد المتزايد للضغوط المختلفة. والرهان على إرباك جهود حزب الله وإغراقه في المشاكل يأتي هذه المرة عبر العامل الديمغرافي الذي يتطلّب المزيد من الوقت والمال لنضج ويستوي واقعاً فعلياً له روابطه الحياتية ومجالاته الجغرافية وخطوطه السياسية وحركته الداخلية وأنساقه الخارجية.

تجنيب لبنان الانفجار رغم هشاشة أوضاعه وبناه المؤسسيّة ليس أمراً عابراً في ظل الفوضى المجنونة على حدوده الشمالية والشرقية. واستبقاؤه خارج جحيم الحرب السورية هو بالضبط لتأمين ملاذات آمنة للنازحين الذين قدم أربعون بالمئة منهم من مناطق لا تعاني من أعمال حربية. فما سر وقصة النازحين (الاجتماعيين) الذين أمنّت لهم الحكومة اللبنانية وبعض القوى المحلية عبوراً سهلاً، وتكفّلت المنظمات الدولية والجمعيات الخيرية تزويدهم بالمبالغ المالية والمساعدات العينية للبقاء في لبنان وفي مناطق يمكن أن تشكل خطراً على أمن المقاومة؟ الغريب أنّ قوى لبنانية عريقة في اعتراضها على توطين الفلسطينين لم تحشد كالعادة (طائفياً) في حالة النزوح السوري وهي تعلم في سرّها أنّ عودة (اللاجئين أو النازحين) بعد سنوات طويلة على لجوئهم ونزوحهم تُعدّ نادرة في التاريخ المعاصر، ما يعني أنّ التوازنات الديمغرافية، التي طالما أثارت حسياسيات وتوترات طائفية داخلية، ستتكسر، وهي حتماً تتجه نحو اختلالات عميقة ستترك تداعيات على مستقبل الكيان اللبناني ومستقبل الدولة وبقائها!

لكن يبدو أنّ هذه القوى تماهت مع مشروعات تقسيم المنطقة وترتيب الأرض اللبنانية. وقد ظهرت بعض خبايا هذه المشروعات في تقرير للأمين العام للأمم المتحدة تحت عنوان بـ(أمان وكرامة: التعامل مع التحركات الكبيرة للّاجئين والمهاجرين) الذي أُعدّ لاجتماع عُقد في 19 أيلول 2016 ويدعو الى اتخاذ تدابير لدعم المجتمعات المحليّة المضيفة بصورة أفضل، بغية تعزيز الاندماج أو (الإدماج) الاجتماعي ومكافحة التمييز ومنح اللاجئين تشريعات قانونية تؤمّن لهم البنية التحتية الملائمة بغرض تسهيل ظروف إقامتهم. ثم تأتي تصريحات وزير الخارجية الاميركي السابق جون كيري، الذي أعرب عن التزام دولته بمساعدة لبنان على التعامل مع وجود أكثر من مليون نازح سوري لتثير الريبة أكثر من خطورة الوضع الديمغرافي القادم على لبنان، وكيفية استخدام هذه الورقة من قبل فاعلين دوليين وإقليميين لأهداف استراتيجية تطال بالضبط حالة حزب الله، ولتضع أمامه مجموعة من الإشكالات والعوائق الاجتماعية والتاريخية والأمنية.

أمام فشل المواجهات العسكرية المباشرة مع حزب الله في لبنان وسوريا على حدّ سواء، فإنّ وسائل الحرب الأخرى كالديمغرافيا تصبح ضرورية إن لم تكن حاسمة. يمكن تذّكر مقولة لينين في هذا الصدد: "الكم بحد ذاته كيف". والكم هنا هم البشر الذين سيتمّ استخامهم كقنبلة في مواجهة حزب الله. فما يجول في خاطر أميركا وإسرائيل وحلفائهما يقع في إطار خفض الوزن الديمغرافي النسبي للكتلة البشرية التي تدعم حزب الله، وجعل مركز القوة الديمغرافية في مكان آخر. أما حزب الله فإنّه يعلم أنّ هذا النحو من التضخم والتوزيع السكاني يعزز من ظاهرة الإرهاب خصوصاً أنّ المجتمعات التي تفرضها سياقات الحروب وتحولاتها توفر بيئة خصبة لنمو الاتجاهات المتطرفة، وتشكل مدخلاً للتخريب ولتحديات سياسية وأمنية قادمة.