خلال الأيام القليلة الماضية، شغلت ​الانتخابات الرئاسية​ الفرنسية، التي انتهت بفوز المرشح ​إيمانويل ماكرون​ على منافسته مارين لوبن، العالم كلّه، ومن ضمنه لبنان، الذي لجأ مواطنوه، باختلاف وتنوّع انتماءاتهم السياسية والاجتماعية، إلى ممارسة هوايتهم المفضّلة بالتحليل والتمحيص، وصولاً حتى تقييم الديمقراطية الفرنسية وإطلاق الأحكام عليها.

وإذا كان اللبنانيون انقسموا، على جري عادتهم، بين ماكرون ولوبن، فإنّ شيئًا واحدًا كان الاتفاق حوله شاملاً وعامًا، في إطار المقارنة بين الانتخابات الفرنسية ونظيرتها اللبنانية، بكافة أشكالها من رئاسية إلى برلمانية وبلدية وما شابه، سواء من حيث القوانين المنظّمة لها، أو آليّاتها الإجرائية، أو من حيث مقاربة النتائج وتداعياتها على المستوى السياسيّ العامّ...

الكلمة للشعب...

من باب التهكّم، والتندّر ربما على الواقع الذي أوصل سياسيو لبنان شعبه إليه، كانت كلمة "قلّة فرق" لسان حال جميع اللبنانيين، عند المقارنة بين الانتخابات اللبنانية والفرنسية، بل ربما بين الانتخابات اللبنانية وأيّ انتخابات تجري في أيّ دولةٍ في العالم، مسمّاة "ديمقراطية"، بما فيها تلك الانتخابات التي يعتبرها البعض "صورية"، ويصنّفها في إطار "المسرحية" و"الاستعراض"، بيد أنّها تبقى، من حيث الشكل على الأقلّ، أكثر حضارية وديمقراطية من تلك اللبنانية.

ولعلّ الحماسة التي أبداها بعض اللبنانيين تجاه معركة الرئاسة الفرنسية، والتي تتجاوز بأشواط، تلك التي يبدونها تجاه أيّ انتخاباتٍ لبنانيّة، تعبّر وحدها عن "قلّة الفرق" بين الاستحقاقين. هكذا، لم يكن مستغرَبًا أن يذهب بعض اللبنانيين إلى الحدّ الأقصى في الدفاع عن ماكرون "المعتدل" في مواجهة لوبن "المتطرفة"، ويعتبر آخرون، على العكس من ذلك، أنّ ماكرون ليس سوى "نسخة طبق الأصل"، وحتى غير منقّحة، عن أسلافه من جاك شيراك إلى نيكولا ساركوزي وصولاً إلى فرنسوا هولاند. وقد وصل "الاغتباط" اللبناني إلى حدّ حصول انقسامات في المقاربة الانتخابية داخل الفريق الواحد، بل داخل الحزب الواحد، في ظاهرةٍ مغيّبة عن الساحة اللبنانية منذ سنوات، إن لم نقل منذ عقود.

وإذا كانت الانتخابات الرئاسية اللبنانية الأخيرة أحدثت بعض "الديناميكية" في التحالفات اللبنانية التقليديّة، خصوصًا بعد حصر المنافسة بين مرشحَين اثنَين من فريقٍ واحدٍ هما الرئيس ميشال عون، ورئيس تيار "المردة" النائب سليمان فرنجية، فإنّ مشكلتها الأساسيّة بقيت في آليّتها الدستوريّة، التي تجعل الشعب يشعر بأنّه غير معنيّ بالانتخابات من قريبٍ أو بعيدٍ، ولا كلمة له فيها على الإطلاق، بل إنّ ما يزيد الطين بلّة أنّ الانتخابات اللبنانية تأتي معلّبة دومًا، فيغيب عنصر "التشويق" عنها بالمُطلَق، إذ إنّ ما يسمّى بـ"الديمقراطية التوافقية" يشترط الاتفاق على شخص الرئيس سلفًا، وفي غالب الأحيان انتظار القرار الدولي والإقليمي بشأنه بكلّ بساطة، ولا ضير في ابتداع "الحيل القانونية" في سبيل تشريع ذلك، كما حصل في الانتخابات الرئاسية الأخيرة يوم أصبح "تطيير النصاب" أسلوبًا ديمقراطيًا عصريًا، ولو كرّس الفراغ في سُدّة رئاسة الجمهورية إلى ما شاء الله.

هل من مجال للمقارنة؟

ولكن، قبل المقارنة بين الانتخابات اللبنانية والفرنسية، قد يكون من الأنسب للبنانيّ أن يسأل نفسه، هل من مجالٍ للمقارنة أصلاً؟ وأيّ انتخاباتٍ بالتحديد هي التي يمكن أن تشكّل مجالاً للمقارنة؟ أهي الانتخابات الرئاسيّة التي لم تحصل إلا بعد توافقٍ سياسيٍ بدا أشبه بالمعجزة، ولم يتحقّق سوى بعد أشهرٍ طويلة من الفراغ الرئاسيّ الذي جعل النظام "الديمقراطيّ" اللبنانيّ على كلّ شفة ولسان؟ أم هي الانتخابات النيابيّة التي لم تحصل، ولو شكليًا، منذ العام 2008، في "إنجازٍ" لم تستطع تحقيقه حتى الأنظمة المصنّفة قمعيّة، والتي كانت نتائجها شبه معروفة مسبقًا قبل هذا العام؟ أم هي الانتخابات البلديّة التي حصلت بشقّ الأنفس في العام الماضي، والتي يمنعها طابعها "المحلّي" من تحميلها أكثر من طاقتها على التحمّل سياسيًا؟.

ثمّ، هل هناك من مجالٍ للمقارنة في "المعايير" الانتخابية بين الانتخابات اللبنانية ونظيرتها الفرنسيّة؟ هل سمع أحدٌ عن حساباتٍ طائفيّة أو مناطقيّة دخلت على خطّ المعارك الانتخابيّة في فرنسا، أو عن حقوق طائفةٍ محدّدة، كما يحصل في لبنان، بمُعزلِ عن اختلاف التركيبة اللبنانية الاستثنائية في كلّ شيء؟ هل فعل "المال الانتخابيّ" فعله، وغيّر موازين المعركة في ربع الساعة الأخير، كما يحصل في لبنان؟ هل شكا أحدٌ من التنظيم السيّء والفوضى، وشكّك بناءً عليه في النتائج؟ وأكثر من ذلك، هل انقطعت الكهرباء في أحد مراكز الفرز، كما حصل في انتخابات بيروت البلدية مثلاً، أو تطلّب فرز دائرةٍ ضيّقة واحدة ثلاثة أيام كما حصل في الانتخابات نفسها؟.

لا تقود هذه المقاربة سوى لخلاصةٍ واحدةٍ وهي أنّ لا مجال المقارنة على الإطلاق، وكيف يكون هناك مثل هذا المجال أصلاً، واللبنانيّون محرومون من ممارسة حقّهم الديمقراطيّ، وقانون الانتخاب لا يعطيهم حقّهم بالتمثيل، والتمديد سيف مصلتٌ عليهم في الليل والنهار، مع اقتراب موعد الخامس عشر من أيار، الذي وُصِف بالمفصليّ. ويكفي للدلالة على ذلك مراقبة المشهد اللبناني عشيّة انتخاباتٍ كانت مفترضة في شهر أيار، أو بالحدّ الأقصى حزيران الذي تنتهي فيه ولاية المجلس النيابي الممدّدة قسرًا، إلا أنّ لا شيء يدلّ على حصولها في وقتها، أو على التوافق على قانونٍ انتخابيٍ جديدٍ وعادلٍ، قولاً وفعلاً، يمكن أن تجري بموجبه، ولو بعد تمديدٍ بسيطٍ، تحت مسمّى "التمديد التقني".

ضحكٌ على الذقون...

يحقّ للبناني أن يتابع، بحسرةٍ وألم، الانتخابات الفرنسية، وقبلها الأميركية، وما بينهما انتخابات معظم الدول "الديمقراطية" في العالم، والتي لا يبدو أنّه يتشارك معها سوى بالمسمّى، الذي بات يشعر أنّه ممنوحٌ له زورًا.

يحقّ للبناني أن يتحمّس لمعركةٍ لا تخصّه من قريبٍ أو من بعيدٍ، ولن يكون لها أيّ تأثير على واقعه، ربما لأنّه يفتقد لمثل هذه الحماسة في لبنان، الذي لم يمارس بعض شبابه حقّ الاقتراع في حياتهم.

ولكن، لا يحقّ للبناني بعد كلّ ذلك أن يبقى متفرّجًا وخاضعًا، لأنّ ذلك سيكون "استسلامًا" بالمعنى الدقيق للكلمة، وسيكرّس استمرار عملية "الضحك على الذقون"، إلى أبد الآبدين...