أصبح واضحًا أنّ ​الانتخابات الفرعية​ باتت وراء ظهر المسؤولين، في ضوء سياسة المماطلة التي تعتمدها الحكومة في مقاربتها، علمًا أنّها، وبعد أن كان مقرّرًا أن تبتّ أمرها هذا الأسبوع، لو صدقت النوايا بطبيعة الحال، "استراحت" من هذا الهمّ "الثقيل"، فلم تعقد جلسةً من الأصل، وهو أمرٌ تعدّدت "التبريرات" المُعطاة له، من زيارة رئيس الحكومة سعد الحريري إلى ​باريس​، إلى عطلة ​عيد الأضحى​ المبارك، مرورًا بحدادٍ وطنيّ لم يُعلَن بعد على العسكريّين الشهداء، وكلّها حججٌ لا تبدو مستقيمة.

في المقابل، دخلت الانتخابات النيابية المنتظرة في أيار 2018 على خط الشكوك والشكوك المضادة. فبعد أن رسم ​البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي​ علامات استفهام حول مصير هذه الانتخابات، برز موقفان لافتان لكلّ من رئيس ​المجلس النيابي​ ​نبيه بري​ ووزير الخارجية ​جبران باسيل​، إذ حذّر الأول من "أيّ لعبٍ بالانتخابات"، فيما وضع الثاني خطوطًا حمراء حول الإصلاحات الانتخابية، داعيًا لإجراء الانتخابات إذا لم يكن هناك نيّة لتطبيقها.

فهل يتكامل موقفا بري وباسيل أم يتعارضان؟ وهل يضعان حداً لهذه الشكوك التي تتصاعد يومًا بعد آخر؟.

مخاوف جدية

بدايةً، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ البطريرك الماروني لم يكن عمليًا أول من رسم علامات استفهام حول مصير الانتخابات النيابية المفترض إجراؤها في شهر أيار 2018، بل هو استند في تكوين موقفه هذا إلى سلسلة من المؤشرات التي دلّت على وجود رغبةٍ ضمنيّةٍ لدى الكثير من الفرقاء، إن لم يكن جميعهم، لتطيير هذا الاستحقاق بشكلٍ أو بآخر، خصوصًا بعدما اعتادوا على مسرحيّات "​التمديد​" المتكرّرة، تقنيًا كان أم غير تقنيّ.

ولا شكّ أنّ تعامل السلطة السياسية مع الانتخابات الفرعية يتصدّر هذه المؤشّرات، إذ انّه دلّ على استخفاف السلطة السياسية بالدستور والقانون، واستسهالها انتهاكهما بشكلٍ فاضحٍ دون أن تكون عرضة لأيّ مساءلة أو محاسبة. فعلى الرغم من أنّ الانتخابات الفرعية واجبٌ دستوريّ ليس خاضعًا لأيّ جدالٍ أو نقاش، وهو ليس خيارًا يمكن للحكومة اتخاذه بما يتناسب مع أهوائها وتطلّعاتها، إلا أنّ الحكومة تجاهلت الاستحقاق وكأنّه لم يكن لأشهرٍ طويلة، وماطلت وما تزال في وضعه على جدول أعمال جلسات الحكومة. وإذا كان صحيحًا أنّ بعض من في السلطة قارب الاستحقاق الفرعيّ بناءً على "فتوى" أقرب لـ"البدعة" اجتهد في ابتكارها ومفادها أنّه "غير محرز" طالما أننا مقبلون على انتخابات نيابية خلال أشهر، فإنّ ما حصل لا يبشّر بالخير على صعيد الانتخابات العامة، بل يؤكد أنّ السلطة السياسة تخوّل نفسها فعل ما تشاء إذا ما ارتأت أنّ الظروف السياسية ليست لصالحها، خصوصًا بعدما قرّر وزير الداخلية والبلديات أنّ قرار إجراء انتخاباتٍ هو "قرارٌ سياسيّ" بالدرجة الأولى. وبالتالي، فإنّ هذه السلطة لن تجد صعوبة في إيجاد المخارج الملائمة للتهرب من الانتخابات إذا ما شعرت للحظة بأنّها لن تؤمّن لها مصالحها وستكشفها أمام الرأي العام.

وقد بدأت هذه "المَخارِج" بالظهور من خلال "التعقيدات" ذات الطابع التقني التي يحرص البعض على "تضخيمها"، وهي تتجلّى بشكلٍ واضح في اجتماعات لجنة ​قانون الانتخاب​، التي يُقال أنّها لم تتوصّل لشيء حتى الساعة. وعلى الرغم من "التسريبات" التي تحدّثت عن اتفاق على الاستغناء عن البطاقة الممغنطة التي نصّ عليها قانون الانتخاب، واستبدالها بما سُمّي بطاقة هوية ممغنطة تُعتمَد في الانتخابات النيابية، توازيًا مع فتح المجال للتصويت مكان السكن عن طريق التسجيل المسبق،فإنّ المعلومات تشير إلى أنّ مثل هذا الاتفاق لم ينجز بعد، وأنّ "​التيار الوطني الحر​" يرفضه جملةً وتفصيلاً، وهو يعتبر أنّ الانتخابات أرجئت ثمانية أشهر بحُجّة هذه "البطاقة"، وبالتالي لا يمكن العودة للبطاقة القديمة بعد كلّ شيء.

وإلى جانب هذه المشاكل التي تبدو في جانبٍ كبيرٍ "مفتعلة"، لا تزال الخشية كبيرة من وجود "نوايا" بالجملة لدى الأفرقاء على فتح مجال "​التعديلات الدستورية​" على قانون الانتخاب في الفترة الفاصلة عن الانتخابات، وهي تعديلاتٌ ستنطلق من كون القانون بحاجةٍ فعلاً لبعض "التنقيح" نظرًا للتناقض في بعض بنوده ومواده، إلا أنّها لن تقتصر على ذلك بطبيعة الحال، بل ستفتح شهيّة الجميع على التعديل، علمًا أنّ بعض المعلومات التي تردّدت في الأسابيع الماضية أشارت إلى أنّ "التيار الوطني الحر" وضع لائحة بالتعديلات التي يريدها على القانون، وهي لا تقلّ عن عدد أصابع اليدين.

الكلام لا يكفي...

ولعلّ الكلام الذي صدر هذا الأسبوع عن كلّ من رئيس المجلس النيابي نبيه بري ورئيس "التيار الوطني الحر" وزير الخارجية جبران باسيليعزّز فرضيّة أنّ مصير الانتخابات النيابية على المحكّ ولا يضعها في خانة "التكهّنات الصحفية" غير المستندة لأيّ معطى ملموس، كما حاول البعض التعامل في السابق مع ما كُتِب في هذا الإطار.

وفي هذا السياق، يبدو كلام بري أكثر من واضح، فهو حذر من أيّ "لعبٍ بالانتخابات"، متوعّدًا من يخطّط لذلك بـ"انقلابٍ"، قائلاً "ليجرّبوني"، وهو كلامٌ ينطوي على خطورةٍ فائقةٍ، ويدلّ على أنّ هناك في الكواليس السياسية ما يُدبَّر لهذه الانتخابات استدعى مثل هذا الموقف ذي السقف المرتفع. أما كلام باسيل، فانطلق من الجانب التقني ليضع اليد على "الجرح"، كما يُقال، خصوصًا لجهة قوله أنّ "التيار" سيرفع صوتاً اعتراضياً مدوّياً ويطالب بإجراء الانتخابات قبل انقضاء مدة التمديد في حال عدم تطبيق الاصلاحات الانتخابية التي نصّ عليها القانون، كالبطاقة الممغنطة.

ولكن، هناك علامات استفهام تُطرَح حول مثل هذه المواقف، وسط شكوكٍ بأن تكون هي أصلاً جزءٌ من "المزايدات الانتخابية" ليس إلا، خصوصًا أنّ كلّ شيءٍ في البلد بات يوظَّف انتخابيًا، ولو كانت الانتخابات نفسها غير محسومة بعد. فعلى سبيل المثال، لا يبدو واقعيًا القول أنّ "التيار" مستعدّ فعلاً لانتخابات وفق القانون الجديد في مدى زمني قصير، ولو طالب بذلك في العلن، لا لشيء إلا لأنّ "التيار"، شأنه شأن غيره من الأفرقاء، لا يزال غير قادر على حسم تحالفاته وشكلها، بل لم يضع استراتيجية لخوض الانتخابات على أساسها، علمًا أنّ الخبراء الانتخابيّين يؤكدون أنّ أيّ فترةٍ انتقاليّة بين قانونٍ وآخر لا يجب أن تقلّ عن ستّة أشهر، بمعزَلٍ عن التفصيلات التقنيّة.

ويبقى الأهمّ من ذلك أنّ المواقف لا تكفي لتبديد المخاوف، خصوصًا أنّ اللبنانيين اختبروها سابقاً مع مسرحيّات التمديد المتكرّرة، إذ كان الجميع، بمن فيهم بري، يؤكدون معارضتهم له ليعودوا في اللحظة الأخيرة ويصوّتوا له، وهو ما حصل مع التمديد الأول والثاني، وحتى الثالث الذي كان سيقرّ كسابقيه قبل ابتكار المخرج "التقني"، علمًا أنّ معظم الفرقاء السياسيين الذين كانوا يردّدون الشعارات الرنّانة برفض التمديد كانوا مستعدّين لتمريره في المجلس النيابي. والأمر نفسه يحصل اليوم مع الانتخابات الفرعيّة، التي صدرت مواقف معارضة لتطييرها، للمفارقة عن بري وباسيل نفسهما، لكنّها بقيت حبرًا على ورق، وكأنّ الرجلين جزءٌ من المعارضة لا السلطة، وبالتالي، فإنّ مثل هذا السيناريو يمكن أن يتكرّر في الانتخابات النيابية، إذا لم يترجم الكلام ضغوطاً عمليّة وسريعة على الأرض.

"تكامل مبدئي"

هو "تكامل مبدئي" إذاً بين بري وباسيل قلّ نظيره، في ظلّ "الكيمياء المفقودة" بين الرجلين. كلاهما مع إجراء الانتخابات الفرعيّة، وكلاهما ضدّ أيّ لعبٍ بالانتخابات، وكلاهما يرفعان الصوت للالتزام بقانون الانتخاب وعدم انتهاكه، والأهمّ من كلّ ذلك، كلاهما جزءٌ أساسيٌ من السلطة، بل مسيّرٌ لها بكل ما للكلمة من معنى.

وبالتالي، وحتى لو اتّفق الرجلان على المبدأ فقط لا على التفاصيل، فإنّ المطلوب منهما أن يترجما أقوالهما إلى أفعال، لأنّهما قادران على ذلك، ولا حكومة أصلاً يمكن أن تركب من دونهما، والأفعال وحدها قادرة على تبديد كلّ الهواجس، ووضع حدّ لكلّ النوايا التي لم تعد خافية على أحدٍ على الإطلاق...