في خطابه الأخير يوم الأحد، تخلّى أمين عام "​حزب الله​" السيّد ​حسن نصر الله​ عن الكلام المُهادن الذي كان أطلقه بحق "داعش" عشيّة وخلال وحتى قبيل إتمام صفقة إخراج إرهابيّي التنظيم المذكور من جرود ​راس بعلبك​ والقاع في مُقابل إطلاق أسرى وتسليم جثامين يعودون إلى كل من "الحزب" و"الحرس الثوري ال​إيران​ي"، وهو هاجم "داعش" بعنف مُعتبرًا أنها من أسوأ المخاطر والظواهر، داعيًا إلى مُواصلة المعركة في كل مكان للقضاء عليها، رافضًا أن تمرّ هذه الظاهرة من دون مُحاسبة من أوجد ومَوّل ومَكّن وسَاعد "داعش". فمن هي الجهات التي تقف وراء توسّع نُفوذ تنظيم "داعش"، والأهمّ من إستفاد ويستفيد منه، وكذلك أين أصبحت المعركة ضُده، ومن يخوضها؟.

منذ صُعود تنظيم "داعش" الإرهابي وسيطرته على مساحات واسعة في كل من ​سوريا​ و​العراق​ بشكل خاص، إتهمت إيران وحلفاؤها ​الولايات المتحدة​ الأميركية و​دول الخليج​ و​تركيا​ بالوقوف وراء نشوء هذا التنظيم الإرهابي وتمويله وتسليحه لأسباب مُختلفة أبرزها تدمير الجيوش العربيّة التي يُمكن أن تُشكّل خطرًا على ​إسرائيل​، وضرب "محور المُقاومة" وإرهاقه، وإسقاط النظام السوري وتأمين حدود إسرائيل، وتقسيم المنطقة العربيّة وإغراقها بالنزاعات، إلخ. في المُقابل، إتهمت الدول الخليجيّة النظامين الإيراني والسوري والقوى المُتحالفة معهما بلعب أدوار حاسمة في تفشّي ظاهرة تنظيم "داعش" الإرهابي وإنتشارها، وذلك لأهداف وأجندات مُختلفة أيضًا، علمًا أنّ هذه الإتهامات مبنيّة على النتائج التي حقّقها تنظيم "داعش" على الأرض، وعلى الجهات التي إستفادت وتستفيد منه، وفي هذا السياق يُمكن تعداد ما يلي:

أوّلاً: إنّ تنظيم "داعش" الإرهابي(1) لعب دورًا حاسمًا في قتال الوحدات الأميركيّة التي سيطرت على العراق وأسقطت نظام حُكم الرئيس صدام حسين، ما تسبّب بخروج أغلبيّة القوّات الأميركيّة من العراق وسُقوط مشروعها الذي كان يقضي بفرض قيادة عراقيّة جديدة حليفة لها، لصالح نشوء قيادة عراقية خاضعة للنُفوذ الإيراني بشكل كبير. وفي تلك الحقبة كان الدعم يأتيه من القوى الإقليمية المُعادية ل​واشنطن​ بالدرجة الأولى. كما لعب تنظيم "داعش" الإرهابي" دورًا حاسمًا في إستكمال تدمير ما كان تبقّى من ​الجيش العراقي​، مُمهدًّا الطريق لإيران لدخول العراق عبر قوّات "​الحشد الشعبي​" غير النظاميّة والمذهبيّة الطابع(2) التي قامت بتشكيلها وبتسليحها وبدعمها، مع تسجيل تنامي نُفوذ الطائفة الشيعيّة على مُستوى السُلطة العراقيّة على حساب تقلّص نُفوذ الطائفة السنّية إلى أدنى مُستوياته.

ثانيًا: إنّ تنظيم "داعش" الإرهابي حارب وقاتل كل فصائل "المعارضة" في سوريا على مدى أكثر من سنتين، كان فيها ​الجيش السوري​ والقوى الحليفة له يتجنّبون قتال التنظيم الإرهابي بشكل مُثير للغرابة، ويُركّزون هجماتهم على فصائل "الجيش السوري الحُرّ"، تاركين "داعش" يتمدّد في سوريا على حساب تراجع مساحات سيطرة باقي الجماعات المُعارضة للنظام. وإضافة إلى دوره الكبير والأساسي في تدمير قوى المعارضة السوريّة ما مهّد الطريق لهزيمتها لاحقًا أمام الجيش السوري والقوى الحليفة له، لعب تنظيم "داعش" دورًا حاسمًا في تشويه تحرّكات مُعارضي النظام في سوريا، بحيث تحوّلوا سريعًا بنظر العالم أجمع من "ثوار" يسعون لإسقاط أربعة عُقود من الحكم الديكتاتوري بحقّهم، إلى جماعات إرهابيّة تُشكّل خطرًا كبيرًا على العالم الحُر والمُتحضّر. وإنتقل من جهة أخرى التركيز الأميركي والغربي من إسقاط النظام السوري إلى مُحاربة "داعش" ومنعه من تنفيذ هجمات إرهابيّة في عمق العالم الغربي!.

ثالثًا: إنّ حُجّة قتال تنظيم "داعش" الإرهابي، سمحت بتوسّع سيطرة إيران المَيدانيّة، في كل من العراق وسوريا عبر دعم وتحريك تنظيمات مُسلّحة مُوالية لها(3)، وساهمت بتعزيز نُفوذ إيران السياسي والأمني بشكل كبير في كامل منطقة ​الشرق الأوسط​ وُصولاً إلى ​اليمن​ وغيره من الدول، الأمر الذي مكّن ​طهران​ من التحوّل إلى لاعب إقليمي واسع النُفوذ يملك أكثر من ورقة ضغط بيده في المفاوضات الدوليّة دفاعًا عن مصالحه.

وبالنسبة إلى الهجمات الحالية على تنظيم "داعش" الإرهابي في كل من العراق وسوريا، فقد تراجعت وتيرتها من جانب قوى التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأميركيّة، في مُقابل إستعار الهجمات التي تشنّها إيران عبر حلفائها المُباشرين. وإذا كانت الخطط الإيرانيّة للسيطرة أمنيًا على العراق عبر قوّات "الحشد الشعبي" تُنفّذ بدقّة ونجاح منذ نهاية العام 2016 الماضي، فإنّ خُطط سحق "داعش" في سوريا عبر الجيش السوري والقوى الحليفة بدأت جديًا وعلى نطاق واسع في الأسابيع القليلة الماضية، وذلك بعد القضاء على أغلبيّة فصائل المُعارضة السُورية في مختلف المنطقة التي إصطلح على تسميتها "سوريا المفيدة". ومن المُتوقع أن تستمرّ القوات المُوالية لإيران في سوريا والعراق، بمؤازرة وحدات الجيشين العراقي والسوري، في المعارك ضُدّ إرهابيّي "داعش" خلال الأسابيع والأشهر القليلة المُقبلة، إستكمالاً للخطط الموضوعة والرامية إلى تأمين الربط البرّي الإستراتيجي من إيران مرورًا بالعراق وسوريا وُصولاً إلى جبهات القتال مع إسرائيل، على إمتداد الحُدود ال​لبنان​ية والسورية معها.

وليس بسرّ أنّه مع هزيمة "داعش" المُتوقعة في المُستقبل غير البعيد، ستُوضع الحلول النهائية للمنطقة على نار حامية، علمًا أنّ الجهات المُعارضة لإيران وحلفائها لن توافق على خُضوع كل من العراق وسوريا للنُفوذ الإيراني الميداني الكامل في أي حلّ نهائي، وستعمل بجهد على مُحاولة تمرير خيارات تقسيميّة للمنطقة ساهم تنظيم "داعش" الإرهابي بتحضير الأرضيّة لها، قبل أن يأتي التطهير الذي رافق عمليّات طرده من جانب إيران وحلفائها، ليستكمل الفرز الجغرافي لكل من سوريا والعراق وفق إعتبارات مذهبيّة وعرقيّة محض قبل أن تكون مرتبطة بتموضعات وبتحالفات سياسيّة معيّنة.

(1) إنبثق تنظيم "داعش" من ​تنظيم القاعدة​ في العراق، وعمليّاته المُسلّحة إستهدفت في بداياته الوحدات الأميركيّة التي سيطرت على العراق وأسقطت نظام حُكم الرئيس صدام حسين، وهو تمكّن من الإنتشار والتوسّع في المنطقة، خاصة في سوريا والعراق إعتبارًا من مطلع العام 2014 بقيادة ​أبو بكر البغدادي​.

(2) تشكّل "الحشد الشعبي" في آذار 2014 بعد فتوى "الجهاد الكفائي" التي أطلقتها المرجعيّة الدينيّة في ​النجف الأشرف​، وهو يتكوّن حاليًا من 67 فصيلاً مُسلّحًا، ويلقى الدعم بالسلاح والمال والتدريب من إيران.

(3) قال الأمين العام لحزب الله السيّد نصر الله في خطابه الأخير: "... لو لم يستعن العراقيّون والسوريّون بأصدقاء حقيقيّين من إيران إلى روسيا إلى فصائل الألوية العراقية وألوية المُجاهدين أفغانيّين وباكستانيّين والمُقاومة في لبنان... لكانت داعش موجودة وتتمدّد".

.