من حق الدكتور حسان حلّاق أن ينتقد مرحلة الانتداب الفرنسي على ​لبنان​ و​سوريا​، فكتابة التاريخ هي بحد ذاتها اشكالية فكرية تحمل بذور النقد الذي هو اساس الابداع العقلي، الاّ ان ما استفزّني في رسالته المفتوحة الرافضة للاحتفال بذكرى لبنان الكبير هو أسفه لولادة ​الدولة اللبنانية​ التي يحمل اليوم هويتها، وكأني به يعبّر عن حنين مكبوت للعودة الى زمن السلطنة العثمانية، وهو حنين انتاب بعضا من المسيحيين للعودة الى المتصرفية وبعضا من المسلمين لاستعادة الخلافة مما كلفنا احيانا حروبا لا نريد العودة اليها.

في الوقائع التاريخية التي لا خلاف حولها أن الدول التي نشأت على أنقاض السلطنة العثمانية كانت وليدة موازين القوى المستجدة بعد الحرب العالمية الاولى، فلا الاتراك حكموا طيلة أربعة قرون بارادة الشعوب المحكومة، ولا القوى المنتصرة بعد الحرب الكونية رسمت حدود الدول المستحدثة بالحوار والاستفتاء والديمقراطية.

لقا كان لبنان الدولة يعاني من حنين العودة الى زمن المتصرفية كلما تأزمت الاحوال بوجه المسيحيين فيه، وهو عانى ايضا من حنين الاندماج تارة بالهلال الخصيب وطورا بحلم الامّة من المحيط الى ​الخليج​. ونكاد لا نصدق أن مشاريع التقوقع والتذويب انحسرت لصالح "لبنان أولا"، مع الأمل في الاّ تصيبنا عدوى يقظة القوميات الثقافية التي باتت تهدّد وحدة الدول في أوروبا على نحو ما هو حاصل في ​اسبانيا​.

لقد أفضت الحرب الكونية الى قيام عصبة الامم، وهي اول كيان قانوني دولي أسس لما بات يعرف بالشرعية الدولية، وهذه العصبة هي التي أنتدبت ​فرنسا​ لمساعدة اللبنانيين والسوريين على انشاء دولتيهما بعد تفكك السلطنة العثمانية. وكان ذلك في العام 1920 أي بعد مؤتمر فرساي الذي حمل اليه بطريرك ​الموارنة​ الكبير ​الياس الحويك​ مشروع ولادة الدولة اللبنانية بتنوعها الديني والثقافي والسياسي. لذلك لا يعقل أن يكون أب الكيان اللبناني قد شارك في ولادته على مضض.

أما المغالطة الأهم، فهي القول ان لبنان فصل عن سوريا وكأنّها كانت دولة مستقلة ضمن حدود معروفة معترف بها، بينما الحقيقة هي ان ولادة ​الدولة السورية​ تزامنت مع ولادة الدولة اللبنانية للمرة الاولى في التاريخ، وكلتاهما كانتا ارضا حكمها الاتراك على مدى 400 عام. ثم من المعيب ايضا تحريف الحقائق والادعاء بان البطريك الحويك لم يكن يريد لبنان الكبير خوفا من طغيان ​الاكثرية​ الاسلاميّة، فيما هو ناضل في سبيل ولادة هذا اللبنان ليتوّج تضحيات بذلها سكان الجبل في سبيل الحرية والاستقلال.

وقد اراد البطريرك ومن ورائه أكثرية سكان الجبل موارنة ودروز وشيعة أن تكون الدولة الوليدة متنوعة بجغرافيتها وديموغرافيتها. وقد عكست تركيبة الوفد الذي ترأسه الى فرساي هذه الارادة الجامعة التي لم يغب عنها ممثلون عن طائفة السنّة في جبل لبنان.

لا لم يكن البطريك الحويك خائفا من المسلمين ولا يخاف المسيحيون اليوم من المسلمين. الخوف هو من طغيان فكر أحادي تسلطي يضرب فكرة الوطن المرتكزة على قيمة الانسان الاولى وهي الحرية.

صحيح ان اللبنانيين عانوا من سلوك الانتداب الفرنسي، ولكن قسما كبيرا منهم عانى أكثر من وحشية النظام التركي في عهد جمال باشا الذي لم يحمل لقب السفّاح زورا، لقد عانوا من القتل والتجويع والحصار والتهجير ومصادرة الاراضي والمواشي ومن السخرة و​الضرائب​ الظالمة. اما الانتداب الفرنسي الذي شعر البعض عن حق انه انتهك الخصوصيات الثقافية ولم يفهم تركيبة مجتمعاتنا، فقد ترك لنا دولة وحدودا ومؤسسات وانظمة وقوانين أضيفت الى الارث الذي تركه الاتراك، وفيه ايضا تشريعات وعمارات لا يجوز انكارها.

أما اتهام الفرنسيين بالتمييز الطائفي وهم ابناء الجمهورية الثالثة اللادينية فأمر مضحك، وكأن أركان النظام السياسي اللبناني فصلوا بعد الاستقلال بين الطائفية والحياة السياسية وعمّموا العدالة بين المناطق وقضوا على التمييز.

ان الدعوة الى الاحتفال بولادة لبنان الكبير هي المدخل الشرعي للاحتفال ب​عيد الاستقلال​، فهذا ما كان ليتم لولا ذاك، وليس أدّل على قبول المسلمين بدولة لبنان الكبير من مشاركة زعمائهم في معارك الدفاع عن استقلال هذه الدولة في العام 1943. ان الاحتفال لمرة واحدة بمئوية دولة لبنان الكبير لا يلغي أبدا الاحتفال السنوي بعيد الاستقلال، كما لا تلغيه الاحتفالات بعيد تحرير الارض من ​الاحتلال الاسرائيلي​.

لقد آن الاوان ان نكرس احترام التنوع وحق الاختلاف بالرأي في سلوكنا الحياتي وان نقلع عن الكذب في مقاربة التاريخ. تاريخنا فيه حياة مشتركة مثلما فيه صراع مشترك، وعلينا ان نتحمل المسؤولية عن ماضينا بكل جرأة فلا ننكره ولا نزوّره ولا نستخدمه للتهويل، وليسأل كل واحد منا نفسه فيما لو عاد به الزمن الى الوراء وكان له القرار في انشاء الدولة هل يقدم على تقسيم لبنان أو تذويبه؟ أم يحافظ على حدود لبنان وتنوعه ويعمل على تطوير نظامه؟.

ان التشكيك في مبررات وجود لبنان هو نوع من الهروب لتفادي الاعتراف بالفشل في بناء الدولة و ادارتها وعجز مخجل أمام انجازات كبار اسسوا ورحلوا.

* كاتب سياسي