كثرت "الاجتهادات" خلال الأسبوع الماضي عن "تقاربٍ" لم يعد وشيكًا فحسب، بل بدأ بين حزبي "الكتائب" و"القوات"، وهي "اجتهادات" وجدت دعامةً أساسيّة من خلال التزامن غير البريء بين زيارتي رئيسي الحزبين سامي الجميل وسمير جعجع إلى المملكة العربية السعودية، والتي فُسّرت في مكانٍ ما على أنّها تمهّد لإعادة "توحيد البندقية" بشكلٍ أو بآخر.
إلا أنّ تفاقم السجالات على "جبهة" الحزبين خلال الساعات الماضية، بدءًا من حديث النائب الجميل التلفزيونيّ، الذي لم يتردّد خلاله بالتصويب بالمباشر على "القوات"، إلى الردّ "القواتيّ" الرسميّ عليه، وفق مبدأ "المعاملة بالمثل"، أوحت بأنّ كلّ هذه الفرضيّات لا أساس لها من الصحّة، وبالتالي، أنّ "الهدنة" بين الجانبَين انهارت، هذا إن وُجِدت أصلاً...
مساعي التقريب قائمة...
لا شكّ أنّ أيّ متابعٍ للسجالات الناريّة التي اندلعت خلال الساعات الماضية بين "الكتائب" و"القوات" سيعتبرها دليلاً إضافيًا على أنّ "القلوب مليانة"، وأنّ مساعي "الصلحة" غير موجودة من الأصل. ففي حديثه التلفزيوني الأخير، لم يوفّر رئيس حزب "الكتائب" حليفه السابق، رئيس حزب "القوات" سمير جعجع، من انتقاداته، باعتبار أنّه جزءٌ أساسيّ من السلطة، التي يفاخر الجميل بأنّه المعارض الوحيد لها. وفي المقابل، لم يستسغ جعجع كلام الجميل، الذي كاد يحتفل لعدم رؤيته على الطائرة التي أقلّتهما إلى الرياض، فكان ردّه للتذكير، وفق مبدأ "الناس قاشعة"، بتاريخ "الكتائب" مع الحكومات المتعاقبة، وهو تاريخٌ لا يمكن شطبه بهذه البساطة.
انطلاقاً من هذه الوقائع، سارع كثيرون لاعتبار ما حصل مؤشّراً على أنّ أيّ تقدّمٍ لم يحصل بين "الكتائب" و"القوات"، وأنّ كلّ ما كُتِب في هذا السياق لا يعود كونه في إطار "الاجتهادات" أو "التكهّنات" التي لا تلزم أحدًا. إلا أنّ مثل هذه الخلاصة تبدو، هي الأخرى، متسرّعة، لأنّ السجالات التي حصلت لا تدلّ سوى على أنّ الجليد بين الحزبين لم يُكسَر حتى الآن، وأنّ أساس الخلاف لم يُعالَج، ولا شيء أكثر من ذلك. أما القول بأنّ الخلافات بينهما تتفاقم، وأنّ التحالف بينهما، في حال كان واردًا في السابق، بات اليوم مستحيلاً، أو "أضغاث أحلام"، فيفتقد للواقعية وللمنطق السياسيين، علمًا أنّ كلّ المعطيات، التي لا ينفيها "الكتائبيون" و"القواتيون" أنفسهم، تؤكّد أنّ مساعي التقريب بينهم قائمة على قدمٍ وساق، بل إنّها بلغت مرحلة متقدّمة رغم بعض محاولات التشويش من هنا أو هنالك.
ولعلّ ما يعزّز هذه النظرية هو إدراك الكثير من المحيطين بكلّ من جعجع والجميل بأنّ لا غنى لأحدهما عن الآخر في نهاية المطاف، خصوصًا مع تفاقم الخلافات بشكلٍ دراماتيكيّ بين طرفي ما سُمّيت بـ"الثنائية المسيحية"، أي "التيار الوطني الحر" و"القوات اللبنانية"، والتي يبدو أنّ مفاعيلها انتهت قبل أوانها. وعلى الرغم من إصرار جانبي "تفاهم معراب" على نفي ذلك في كلّ المناسبات، على قاعدة أن "لا رجوع إلى الوراء"، فإنّ كلّ الوقائع تشير إلى أنّ شيئًا لم يبقَ من هذا التفاهم سوى طيّ صفحة الحرب السوداء، لا أكثر ولا أقلّ. وقد أتت التعيينات والتشكيلات الأخيرة، التي احتكرها "العونيون" على الساحة المسيحية، لتزيد هذا التفاهم هشاشةً، مع شعور "القوات" بإقصاء متعمّد لها، وحاجتها بالتالي للبحث عن "بديل" قد لا يكون سوى "الكتائب".
رفع للسقف!
من هنا، إذا كان صحيحًا أنّ السجالات، بشكلٍ عاديّ، لا تدلّ سوى على الافتراق والانفصال، فإنّها في حالة "الكتائب" و"القوات" لا تدلّ على ذلك بالضرورة، بل إنّ كثيرين يعتبرون أنّ وجود قنوات تواصل بين الجانبين هو الذي أجّج السجالات بينهما اليوم وليس العكس من ذلك، خصوصًا أنّ بيان "القوات" الغاضب والتوضيحي أتى ردًا على كلامٍ لا يقوله النائب الجميل للمرّة الأولى، بل يكرّره منذ تشكيل الحكومة، لدرجةٍ بات بعض خصومه يدعونه للتخفيف من إطلالاته الإعلامية التي يعيد فيها إطلاق المواقف نفسها، حتى "يشتاق" إليه الرأي العام، على الأقلّ. وبالتالي، فإنّ مضمون كلام الجميل لم يكن هو ما أزعج جعجع بقدر ما أزعجه بقاء الرجل على "المعزوفة" نفسها، رغم تحسّن العلاقة، وتطورها تنظيميًا وشعبيًا، ولو بالحدّ الأدنى.
لذلك، فإنّ البحث لا يجب أن يتمحور اليوم حول نتائج وتداعيات ما حصل، وهي المتروكة للظروف، بقدر ما يتركّز على الأسباب والخلفيّات، والتي تنطلق من "الشعبوية" التي يسعى إليها كلّ من جعجع والجميل في هذه المرحلة للتأسيس عليها في ما بعد، وتصل إلى "رفع الأسقف"، الذي قد يكون مدروسًا ومقصودًا بل منسّقًا تمهيدًا لعودة التحالف بشكلٍ لا يضرّ بالصورة ولا يتناقض معها، وكلاهما عاملان متكاملان في مسارٍ واحد، عنوانه من دون شكّ هو الانتخابات النيابية القادمة، والتي يتّفق الجميع في لبنان على اعتبارها مفصليّة ومصيريّة، إن حصلت في موعدها.
لكن، أبعد من "الشعبوية" و"رفع الأسقف" لتحقيق المبتغى، وكلّها أسلحة تصبح مشرّعة في موسم الانتخابات، باعتبار أنّ الحلفاء، حتى الثابتين منهم، لن يتردّدوا في "ابتزاز" بعضهم البعض باستخدام شتّى أنواع "المناورة السياسية"، لتسجيل النقاط، تبقى المواجهة الإقليمية القادمة، والتي بدأت ملامحها تلوح في الأفق، فوق كلّ اعتبار. وفي هذا السياق، هناك من يقول أنّ الرجلين اللذين أقلّتهما طائرة واحدة إلى الرياض على وجه السرعة، ستعود وتقلّهما حافلة واحدة عند اللزوم إلى السباق الانتخابيّ، الذي باتت عناوينه شبه معروفة، ألا وهي مواجهة "حزب الله"، وهي عناوين تجمع "الكتائب" و"القوات" بطبيعة الحال، أكثر ممّا تجمع غيرهما ممّن يمكن تسميتهم بـ"حلفاء الضرورة".
من يفهم؟
على بُعد أشهرٍ من الانتخابات، لا تزال صورة التحالفات أكثر من مبهمة، بل لا قدرة لأحد على تفسيرها.
من جهة، يُقال أنّ قوى "14 آذار" سيُعاد إحياؤها لتخوض الانتخابات بشكلٍ موحّد، فيما "رموز" هذه القوى تستمرّ في سجالاتها، بل إنّ أحدًا منها لا يتحمّل رؤية الآخر أو الاستماع له. ومن جهة ثانية، لا يزال الكثير من الأفرقاء يتطلّعون لخوض الانتخابات بتحالفاتٍ لا أحد يعرف علامَ تستند حقيقةً، في ظلّ الاختلاف على كلّ شيء.
ربما لهذه الأسباب، تمنّي الطبقة السياسية النفس بتمديدٍ جديدٍ يقيها شرّ "صداعٍ" لن ينتهي، فيما يتمنّى الكثيرون أن يشهدوا على حركة سياسية جديدة، يكون "المنطق" فيها مُصانًا، احترامًا لذكائهم وعقلهم، على الأقلّ!.