من الخطأ مقاربة التصعيد الحاصل ضد «حزب الله» من الزاوية ال​لبنان​ية وفي معزل عن الصورة الإقليمية، ومن الخطأ الأكبر اعتبار ذلك مقدمة لتصعيد عسكري قريب، وأنّ لبنان أصبح في مهبّ الريح، وهو ما يحاول البعض الترويج له.

الصحيح أنّ المنطقة، ولبنان ساحة من ساحاتها، دخلت في مرحلة ضغوط تصاعدية في إطار الترتيبات الدولية لإعادة تشكيل خريطة جيوسياسية جديدة بعد إقفال الفصل الأخير من الحرب الدائرة في ​سوريا​، وهذا لا يعني بالضرورة أن يكون المدى الزمني لهذا الفصل قصيراً.

فلقد اختار الرئيس الاميركي ​دونالد ترامب​ إطلاق مسار ضاغط على إيران و«حزب الله» تماشياً مع التطورات التي رسَت خلال المرحلة الماضية.

وقد يكون وجد أنّ التوقيت بات مناسباً، وهو الذي لا يزال يعاني أزمة كوريا الشمالية من دون إيجاد حلٍّ لها، كما أنّ مشكلاته الداخلية تتفاقم مع عجزه عن تمرير قانون له في الكونغرس الاميركي وسط تمرّد بعض الجمهوريين عليه. أضف الى ذلك التدنّي المستمر في شعبيته، فيما بدأ التحضير فعلياً للانتخابات النصفية التي ستجري بعد سنة.

كلّ ما تقدم، يدفع ترامب الى انتهاج خط هجومي، ولكن الأهمّ وقوف الشرق الاوسط ما بين مرحلتين، واحدة عسكرية تُشارف على الانتهاء، وأخرى سياسية يجري العمل على ترسيمها.

ومن غير المنطقي أن تعمد ​واشنطن​ الى التسليم بالنفوذ ال​ايران​ي في ​العراق​، وإلى إقفال ملف الحرب في سوريا على قاعدة بقاء الاسد وتكريس حضور نافذ للإيرانيين في سوريا بعد قطع شرايين الدعم للفصائل المعارضة، في زمن ترامب تحديداً، فيما تعلن اليوم ما يشبه الحرب على دور إيران في المنطقة. وهو ما يعني أنّ الحملة الاميركية تأتي في إطار الضغوط في محاولة لتحديد الأحجام قبل تكريس التشكيلة الجديدة لخريطة الشرق الاوسط.

ولكن هذا الضغط يحمل خطة تصاعدية تتضمن في بعض جوانبها استهدافات أمنية من خلال السيطرة الاميركية الجوية عبر طائرات «الدرونز» التي نفّذت مهمات في سوريا، والتي قد تنفّذ مهمات أخرى بعدما أعطت واشنطن صلاحيات أوسع للقادة العسكريين في المنطقة، والتي من غير المستبعد ان تشمل الاجواء اللبنانية مستقبلاً.

وفي المقابل، ردّت ايران على المستوى نفسه من التحدّي، مرّة لأنها لمست مستوى الضغط الحاصل والمسار التصاعدي المتوقع، ومرة أخرى لأنها تبدو واثقة من أنّ الضغوط شيء والحرب شيء آخر، ولأنّ ​طهران​ تدرك أنّ الهدف هو منعها من «هضم» المكاسب الكبيرة التي حقّقتها، وبالتالي السعي لإعادة «دوزنة» حجمها.

فهي انطلقت لتوسيع دائرة تحالفاتها وتمتينها مستفيدة من الاخطاء الاميركية، فعَدا التحالف المتين الذي تقيمه مع روسيا من خلال ربط مصالحها بمصالح ​موسكو​، تقدّمت في اتجاه تركيا الغاضبة من الرعاية الحاصلة للاكراد.

وعَدا أنها بذلك تضمن تقاطعاً إقليمياً قوياً، فهي في الوقت نفسه تبعد نفسها قدر الامكان عن إثارة النزاع السني - الشيعي كون تركيا بزعامة رجب طيب اردوغان باتت رمزاً سنياً كبيراً، وهو ما يسمح لطهران بـ«هضم» مكاسبها بكلفة أقل.

ومن هذه الزاوية يمكن قراءة الكباش الاميركي - التركي الحاصل، ذلك انّ واشنطن المتمسّكة في نهاية المطاف بوزن تركيا داخل حلف شمال الاطلسي، أرادت توجيه رسائل الغضب الى تقارب ​أنقرة​ مع طهران، لكنّ تركيا تضع في اولى اولوياتها الغطاء الممنوح للأكراد الذين يشكلون لواشنطن حاجة قتالية لا بديل منها حالياً، فتلاقت تركيا مع ايران على منع تفتيت المنطقة.

لا بل اكثر، فإنّ العملاقين الاقليميين ذهبا أبعد من ذلك مع تعزيز التعامل الاقتصادي بينهما من خلال تبادل العملات بينهما عبر البنك المركزي لكلّ دولة، للتحرّر من التبادل التجاري عبر العملة الاميركية.

لكنّ الضربة الاميركية الأقوى كانت مع «ترويض» حركة «حماس»، ودفعها لاحقاً للمصالحة مع السلطة الفلسطينية برعاية مصر.

وتحاول واشنطن من خلال مشروعها هذا إغلاق جبهة غزة نهائياً، والتي تشكل نقطة ضعف ل​إسرائيل​ كونها جبهة داخل فلسطين. ولكن حتى الآن تبدو «حماس» رافضة طلب تسليم سلاحها، لكنّ الراعي المصري يعمل على حلّ وسط يقوم على إيلاء «الحرب والسلم» لقرار مشترك لـ«السلطة» و«حماس»، وهو ما يعني ضمناً تعطيل أي قدرة لـ«حماس» للانطلاق في معارك وفق توقيتها الخاص.

وذهبت واشنطن في اتجاه ​السودان​ الذي شكّل أحد المصادر الاساسية لإيصال السلاح الى «حماس» في غزة. فأجرت الخرطوم تموضعاً جديداً واصطفافاً سياسياً على أساس الابتعاد عن ايران والتقارب مع السعودية مقابل قرار واشنطن برفع العقوبات عن السودان، مع الاشارة الى انّ رفع العقوبات بقي جزئياً ربما لضمان ثبات السودان في موقعه الجديد.

ولا حاجة للاستنتاج بأنه في حال نجاح واشنطن في ترويض «حماس»، فإنّ «حزب الله» سيخسر سنداً عسكرياً.

وفق هذه الصورة يمكن مقاربة المشهد اللبناني، وعلى رغم الاحتقان الاعلامي والسياسي السائدين إلّا أنّ ذلك لن يؤدي الى كشف لبنان أو إزاحة الغطاء الدولي عنه، ما يعني انّ لهذه الضغوط سقفاً لن تتعدّاه.

وأخيراً، زار قائد الجيش العماد جوزف عون الأردن حيث اطّلع على أسلحة سيجري تسليمها للجيش اللبناني في إطار برنامج الدعم الاميركي، ذلك أنّ القيادة العسكرية الاميركية تولّت شراء هذه المعدات وستعمل على إعادة تحديثها وتسليمها الى ​الجيش اللبناني​.

كذلك، فإنّ القيادة العسكرية الاميركية التي أبدت إعجابها بالمهنية التي تميّزت بها وحدات الجيش اللبناني وطريقة استخدامها السلاح الاميركي، لا تزال توسّع برنامجها بتزويد الجيش اللبناني السلاح النوعي. وإذا كانت طائرات الـ«سوبر توكانو» قد خضعت لقرار سابق، فإنّ وصول صواريخ من نوع «تاو» المُعدّل والذي يبلغ مداه اكبر من السابق والأكثر دقة، فهو نابع من قرار اتخذ بعد معارك الجرود، وهو قرار يخالف اللغط الذي ساد الساحة الداخلية اللبنانية بعد انتهاء المعارك يومها، ما يثبت خطأ القراءة السياسية لبعض الأطراف اللبنانية.

في نهاية هذا الشهر، يزور العماد جوزف عون واشنطن مرة جديدة، ويليه المدير العام لقوى الامن الداخلي اللواء عماد عثمان بدعوة من المؤسسات الامنية والعسكرية الاميركية، بعد زيارة قام بها المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم. واذا كانت زيارة الاخير لها علاقة بالأمن السياسي بكل تفرّعاته، فإنّ زيارتي عون وعثمان طابعهما عسكري وتقني.

وترجّح مصادر معنية بأن يركز المسؤولون العسكريون الاميركيون على علاقة المؤسسات الامنية اللبنانية مع «حزب الله» وملفات اخرى في الاطار نفسه. لكنّ الكلام الرسمي المعلن شيء والإقتناع الواقعي الضمني شيء آخر. فواشنطن نفسها نَصحت ​الجيش المصري​ بفتح قنوات التعاون مع عشائر سيناء التي تعمل خارج القانون وفي كل انواع التهريب، من اجل ضمان الحرب ضد إرهاب «داعش».

واشنطن ايضاً استبقَت غزوها لأفغانستان ومن ثم للعراق بتفاهمات مع ايران لضمان نجاح عمل قواتها، وحتى في افغانستان فإنّ القيادة العسكرية الاميركية فتحت أخيراً خطوط تواصل لها مع حركة «طالبان»، تحت عنوان التمييز بين الجناح السياسي والجناح العسكري.

والمقصود بكل ذلك أنّ الاميركيين الذين اشتهروا بالسياسة الواقعية يدركون جيداً طريقة التعاطي مع الوقائع لضمان النتائج. فكيف الحريّ بساحة مثل لبنان ومنطقة مثل الشرق الاوسط، حيث تبارك واشنطن بصراحة تكريس انتصار محور على آخر، ولو انها تعلن عكس ذلك.

وهو ما يعني أنّ الكلام المعلن شيء والإقتناع الضمني شيء آخر مختلف كلياً، وأنّ الضغوط التي ستشهدها ساحات الشرق الاوسط، ولا سيما منها الساحة اللبنانية، لها أسبابها وأهدافها غير التي يتوهّمها البعض، ضغوط من أجل دوزنة الأحجام لا من أجل قلب الوقائع.