هل تعبت ​الولايات المتحدة​ من العالم وشعوبه أم أن دول العالم قد أتعبتها إلى الحد الذي ما عادت قادرة فيه وحدها على لملمة شظايا الشعوب والأوطان المتناثرة والتوق إلى العظمة الدولية فوق سطح الأرض؟

يحمل الجواب الأمرين معاً وانسحاب أمريكي نحو ما يشبه لكنة وطنية اقتصادية صارخة تقول بأمريكا أولاً لكن لها أصداء وتحديات ومخاطر نووية.

لماذا؟ لأن أمريكا شرّعت النوافذ بين القارات والجهات والشعوب المتنوعة بإشاعة التكنولوجيا والمعلومات ومشاعياتها، وشرّعت أحاديتها خيمة كونية على النسق البريطاني القديم بكونها الدولة الطامحة لأن تمسك بغروب الشمس عن الأرض. وشرعت بذلك لقوتها وتحالفاتها عبر جمهورييها وديمقراطييها وأجهزتها المعلنة والسرية الكثيرة في العالم. لكن يبدو أن هذا التشريع المزدوج حمّلها أطناناً من الأعباء الهائلة التي لطالما أعيت الإمبراطوريات القديمة في التاريخ وأربكتها.

يطرح هذا السؤال بحثاً عن عنوان هذه المرحلة من تداخل الفصول الأربعة الصعب والمبهم في العلاقات الدولية. فهل نحن عرباً ومسلمين تحت وطأة الربيع الممسوخ الهوية أو أننا نطل على انسحاب الصيف وتعب الخريف؟ هي أسئلة أكثر من ضرورية تتجاوز أرض العرب لطالما يعني التوق إلى عنوان الموحلة نوعاً من الاستقرار فلسفياً ووطنياً. معضلة لطالما لم تفصح العلاقات/ التشابكات الدولية عن عناوينها وهويتها بعد بين أن تكون إشارات إلى حربٍ و/ أو نزاعات عالمية أو أنها خروج قسري وغير واضح بعد من الأحادية نحو الحروب الباردة الجديدة أو نحو تعددية العظمة المنبعثة في ​أوروبا​ عبر الطموح الفرنسي الملحوظ بعدما استيقظت ​موسكو​ وغيرهما في إعادة بناء ​الشرق الأوسط​ وترسيم العالم وفق مناخ دولي جديد لكنه بعيد... يضيع بين الاستقرار والانتظار.

* أولاً: الخروج من الانتظار

1- ليس قليلاً أن يشهر شاغل ​البيت الأبيض​ ​دونالد ترامب​ غير المكترث للرأي العام العالمي، وفي فترة زمنية قصيرة جداً بلاده «سيفاً» يخرجها من اتفاق ​باريس​ الدولي حول المناخ، ويأخذ سلسلة من العقوبات القاطعة ضد ​روسيا​ و​إيران​، ويقلب دينامية تطبيع العلاقات الدبلوماسية مع كوبا، ويعلن نيته وقراره الحاسم بإلغاء التفاهم الدولي النووي (الخمسة زائد واحد) مع إيران، ومجابهة ​باكستان​، وتهديد ​فنزويلا​ بتدخلٍ عسكري، والتهديد بضرب ​كوريا الشمالية​ بما لم يشهده العالم من قبل..الخ، ودفع ​تركيا​ للذهاب نحو الشرق، والخروج من المساهمة المالية المتقدمة في منظمة ​الأونيسكو​ الدولية..الخ من القرارات الرئاسية السريعة في ملفات ملتهبة لا تنتهي في أرجاء العالم، كان يفترض انتظار أو تهيئة الوصول إلى برودة رمادها قبل الحسم فيها. بالمقابل، لم تبرز علاقات واشنطن ترامب الرحمية والتاريخية إلا مع «إسرائيل».

2- كان هذا السيف مسلولاً فوق رأس جارته ​المكسيك​ كما فوق رؤوس المسلمين في أرجاء الولايات مما جعل مسؤولية الحاكم ضخمة في هذا المجال، خصوصاً وأنها جاءت معطوفة على موروث صراع الحضارات الذي أغرق الأزمنة بالدم وكره أمريكا وجاء وقعه يحمل الكثير من العنصرية وكأنه يعيد اشتعال الصراعات الدولية في سياسةٍ يتم فيها الخلط الغريب بين التفكير في الحلول الدبلوماسية والقفز من شبابيك هذه الحلول نحو الحلول العسكرية.

* ثانياً: التذكير بالاستقرار الضائع

كيف كانت تبدو صورة الولايات المتحدة فوق رقعة الأرض؟

1- كانت تبدو وقد ارتاحت أولاً من الخط الأحمر أو الخطر الشيوعي وساعدها المسلمون في ذلك قبل داعش ودولة الخلافة الآفلة. البترول كان وما زال ماء العولمة وكلأ شعوبها المتناثرة في العالم. وكان يعني سقوط الشيوعية إزالة العدو المشترك للغرب والمسلمين وترك كلاً منهما كي يصبح الخطر المتصور على الآخر وكأنهم يثبتون ما قاله لينين، بعد عودته من منفاه بأن «أياماً لا عقوداً تصنع التاريخ البشري». وجاء ارتياح موسكو الظاهر يخفي قلقاً وطموحاً عارماً من المستقبل، فحجم الولايات المتحدة في الشرق فاق المتغيرات الحاصلة في ​أفغانستان​ و​العراق​ والدول المسكونة بالهلع والديمقراطية المستوردة التي لم تتضح معانيها أبداً من ناحية، وبدت زهور الوحدة السياسية الأوروبية في القارة الموصومة أمريكياً بشيخوختها إلى ذبول، ولو كانت قد أنجزت وحدتها الاقتصادية بشكل مقلقٍ غير مكتمل.

1- بدت الولايات المتحدة الدولة القائمة عالمياً تهادن الخط الأصفر أو الخطر ​الصين​ي وتعيد شحن الغرب بالنظر إلى قوة الصين التي بقيت مسيطرة في آسيا ألفي سنة وهي تبدو الدولة القادمة المنافسة عالمياً. صحيح أن العولمة كانت تعني الأمركة لكن الصحيح أيضاً أنه في الوقت الذي تحلم فيه الأجيال بتعلم الإنجليزية ويمارسون أحلامهم عبرها، كان الأمريكيون يرحلون نحو تعلم اللغة الصينية. وقد لا يطول الزمن الذي نجد فيه تلك اللغة القادمة تحتل المساحات الأوسع على الشاشات. تعتبر الصين قلعة الأقصى من الشرق وهي تغري إذن الفكر الغربي المعاصر اللاهث وراء هذا الشرق أو «عش الشمس» كما يسميه بعض المفكرين الغربيين الباحثين عن الحقائق والمعارف في إيقاظ ذواتهم الداخلية وتجديد فلسفات اليوغا ومشتقاتها واعتبارها موضة العصر في المعالجات النفسية.

3- راحت تقوم الولايات المتحدة، من ناحية ثالثة، تعلن الحروب المفتوحة على الخط الأخضر أو الخطر الأصولي الإسلامي حليف الأمس، وعلى الرغم من الإقرار بأن الإسلام هو دين التسامح والحوار والسلام من قبل بعض صانعي القرارات فإنه إقرار لم يستقم ودرجة العداء التي تحرص عليها وتبثها الحروب المفتوحة في عنوانيها المرفوعين في الشرق الأوسط الجديد والفوضى الخلاقة إلى وسائل الإعلام والمؤسسات الاستراتيجية الكثيرة كانت تساند هذه التوجهات وفق استراتيجيات محددة.

تبدو واشنطن غير مكترثة عندما تتهشم الأباريق بعيداً منها. ألم يعلن ليندسي غراهام السيناتور الجمهوري بأنه: «إذا مات الألوف من الناس، فإنهم يموتون هناك، وليس هنا، ويشاطرني ترامب هذا الشعور».