لم تعد جلسات التفاوض الخاصة بالحرب السوريّة مَحصورة بجولات "مُؤتمر جنيف"، حيث تُعقد على خطّ مُواز وبشكل دَوريّ مُفاوضات في "آستانة" و"سوتشي" وغيرها، إضافة إلى إجتماعات تنسيقيّة، منها على سبيل المثال لا الحصر في "الرياض" و"أنقره"، إلخ. فهل هذا الأمر يُساعد في التوصّل إلى حلّ للأزمة السورية، مع الإقتراب سريعًا من الذكرى السابعة لإنفجار هذه الأزمة، أم أنّ ما يحصل يعكس عمليّة "كباش مُستمرّة" بأوجه جديدة، بين العديد من القوى والدول الإقليميّة والدَوليّة، وذلك على النُفوذ والمصالح في سوريا ومنطقة ​الشرق الأوسط​ ككل؟.

لا شك أنّه مع وُصول مُؤتمر جنيف الدَولي إلى الرقم ثمانية، لا تزال المَواقف هي نفسها تقريبًا، حيث يُصرّ الوفد السوري على وصف الجماعات المُسلّحة المُناهضة له بالإرهابيّة رافضًا تقديم أي تنازلات لها، في حين يُصرّ وفد المُعارضة السوريّة على ضرورة تنحّي الرئيس السوري بشّار الأسد، كمطلب أساسي للتوصّل إلى تسوية شاملة ودائمة. لكن وبعيدًا عن مُفاوضات "جنيف 8" التي-وكسابقاتها، لن تؤمّن الحلّ المَنشود، من الواضح أنّ التسوية ليست بيد المبعوث الأممي ​ستيفان دي ميستورا​، ولا بيد لجان التفاوض، بعد أن تحوّلت سوريا إلى دولة تتنازع السيطرة عليها قوى محلية مُختلفة، وقوى إقليمية ودَولية مُختلفة أيضًا. وفي هذا السياق، من الضروري الإقرار بوُجود العديد من "اللاعبين" الذين يتقاسمون النُفوذ والميدان السوري.

بالنسبة إلى النُفوذ الميداني، النسبة الأكبر من الأراضي عادت إلى سيطرة النظام السوري والقوى الحليفة له، حيث إرتفعت سيطرة ​الجيش السوري​ من 22 % من مساحة سوريا في نهاية العام 2015 إلى نحو 55 % حاليًا، علمًا أنّ الأراضي التي يُسيطر عليها تضمّ النسبة الأعلى من حيث الكثافة السُكانية، وأبرز المُدن السورية، إضافة طبعًا إلى العاصمة والساحل المُطلّ على البحر الأبيض المتوسّط. وتحلّ في المركز الثاني من السيطرة الميدانيّة "قوّات سوريا الديمُقراطيّة" التي تتكوّن بشكل أساسي من "​وحدات حماية الشعب الكردي​" مع نسبة تبلغ نحو 25 % من الأراضي السوريّة. وفي المركز الثالث، تعود السيطرة إلى "فصائل مُعارضة سوريّة" مُختلفة وذلك على ما نسبته نحو 13 % من الأراضي السوريّة. وتراجعت سيطرة تنظيم "داعش" الإرهابي إلى نحو 5 % فقط من الأراضي السورية بعد الهزائم المُتلاحقة التي لحقت به خلال الأشهر الماضية، ليُصبح في المركز الرابع. أمّا المركز الخامس والأخير من السيطرة الميدانية في سوريا، والذي لا يتجاوز 2 %، فيعود إلى فصائل "درع الفرات" المدعومة من وحدات من ​الجيش التركي​ والتي تُسيطر على مساحات في الشمال السوري على الحدود الجنوبية لتركيا.

بالنسبة إلى النُفوذ السياسي، تأتي ​روسيا​ التي قرّرت المُباشرة بسحب الجزء الأكبر من قوّاتها العسكريّة في سوريا بعد أن أنجزت مهمّتها، في الطليعة، حيث كان لتدخّلها العسكري المُباشر في سوريا التأثير الأكبر في قلب موازين القوى، خاصة وأنّها وقفت بحزم ضُد كل المشاريع الأميركيّة والغربيّة لعزل النظام ولمعاقبته، ونجحت في وقف مدّ تركيا للمعارضة السورية بالسلاح، بعد أن لعبت بذكاء على الخلاف الأميركي-التركي بشأن منطقة النفُوذ العسكري الكردي على الحدود مع تركيا. وتأتي ​إيران​ في المركز الثاني على مُستوى النُفوذ السياسي، بفعل قوتها العسكريّة ونُفوذها الإقليمي الواسع وخُصوصًا نتيجة تنظيمها الدعم الميداني للنظام السوري عبر ميليشيات وقوى مُسلحة من إيران و​لبنان​ و​العراق​ و​أفغانستان​، الأمر الذي عوّض النقص العددي الذي كان سببًا في خسارة الجيش السوري الكثير من المناطق في بداية الحرب. وفي المركز الثالث، تأتي ​الولايات المتحدة الأميركية​ التي يقتصر تواجدها العسكري في سوريا على أقل من 1500 جندي حاليا بعد سحب 400 عُنصر من الرقّة، لكنّها تملك قواعد عسكريّة جويّة في محيط سوريا وتقود "التحالف الدَولي" الذي يستطيع التدخّل جويًا في أي وقت يُريد، علمًا أنّ لواشنطن كلمة مسموعة في أي مُفاوضات، وتأثير كبير في عدد من الفصائل المُصنّفة "مُعارضة"، لا سيّما الكرديّة منها، وتلك المُنتشرة جنوب سوريا على الحدود مع ​الأردن​ والتي كانت تُدار من قبل مركز عمليّات "موك" ومقرّه عمّان. أمّا المركز الرابع على مُستوى التأثير السياسي في الحرب السورية، فيعود إلى تركيا التي باتت تتواجد عسكريًا-ولوّ بشكل محدود، داخل سوريا، مُستفيدة من إلتقاء مصالحها مع اللاعب الروسي على حساب تراجع علاقاتها مع اللاعب الأميركي، علمًا أنّ واشنطن بدأت أخيرًا بإستمالتها مُجدّدًا على حساب الأكراد. وفي المركز الخامس، يأتي نُفوذ المملكة العربيّة السعوديّة التي نجحت خلال مؤتمر "الرياض 2" الذي عُقد أخيرًا في الخروج بقيادة جديدة للمُعارضة السُوريّة مُتأثّرة بنفوذها، بعد تراجع دور قطر إلى الحُدود الدنيا في سوريا بفعل الهزائم المتتالية التي لحقت بالفصائل الإسلاميّة المُتشدّدة التي كانت تدعمها الدوحة.

وإنطلاقًا من هذه الوقائع الميدانية والسياسيّة، من الصعب أن يخرج حلّ ​الأزمة السورية​ من مؤتمر يجمع مثلاً روسيا وإيران وتركيا-على الرغم من النُفوذ الواسع لهذه القوى مُجتمعة، وإجتماعات "آستانة" التي بلغ عددها 7، وتأجيل "مؤتمر الحوار الوطني السوري" في "سوتشي" إلى شباط المُقبل، هي خير دليل على ذلك، والسبب أنّ باقي الدول من أصحاب النُفوذ، أي الولايات المتحدة الأميركيّة والمملكة العربيّة السُعودية ستعمل على العرقلة بكل ما أوتيت من قوّة نتيجة تغييبها عن هذه الإجتماعات. والعكس صحيح أيضًا حيث أنّ "​مؤتمر جنيف​" الذي يطغى فيه النُفوذ الأميركي والدَولي على حساب النُفوذين الروسي والإيراني، لن يؤمّن الحلّ المنشود للأزمة السورية.

وبالتالي، وعلى الرغم من التفاؤل الكبير بإمكان أن يكون العام 2018 عام الحسم السياسي بالنسبة إلى الحرب السوريّة التي فاقت نتائجها كل التوقّعات(1)، لن يخرج الدُخان الأبيض من أي مُفاوضات سلام بشأن سوريا، ما لم يتم أخذ نُفوذ ومصالح كل القوى والدُول المؤثّرة في الحسبان، وذلك على حساب مصالح الشعب السوري للأسف الشديد.

(1) بحسب آخر إحصاءات، فإنّ عدد ضحايا الحرب السورية فاق النصف مليون شخص، وعدد اللاجئين السوريين بلغ 5,34 مليون لاجئ موزّعين على تركيا ولبنان والأردن والعراق ومصر، و27 % من المباني السكنية في سوريا باتت مُدمّرة كليًا أو جزئيًا، وخسر الإقتصاد السوري 226 مليار دولار أميركي، وصار أكثر من ثلثيّ السوريّين يعيشون إمّا من دون عمل أو من دون دراسة!