السؤال الكبير المطروح اليوم على كياننا المفتدى بالربّ والمدعو إلى الحياة الأبديّة هو التالي: الله غطس في بشريّتنا عندما تجسّد ودعانا لنغطس في لاهوته عندما تمجّد، فما هو جوابنا؟!. على جوابنا تقوم دعوتنا.

الخلق والتجسّد: مغامرة الحبّ الإلهيّ

عندما غطس الربّ في بشريّتنا قام بمغامرة كبيرة مع الإنسان. ولكن مغامرته بدأت منذ الخلق. كيف؟!.

سرّ الله في ذاته سر حبّ وتجرّد وإخلاء للأنا. هذه الحركة اللاهوتيّة الكيانيّة الداخليّة في الله، حركة حبّ الآب والابن والروح القدس، فاضت إلى الخارج، فاضت إلى عمله فكان الخلق على صورة الله أي حبّ وإخلاء وتجرّد. والإنسان وحده بين كل المخلوقات هو موضوع حبّ الله وصورته ومثاله(تك1: 26). وعندما نقول أن الله أرسل ابنه في ملء الزمن مولودًا من امرأة(غلا4:4)، هذا لا يعني أن الله انتظر الزمن ليقوم بتدبير الخلاص، إنما تدبيره هو أزليّ مثله فقد أفاض من كيانه عندما خلق الإنسان، وعلى صورته ومثاله خلقه، وبدون غاية خلقه إذ لم يُوجِدْه ليسبّحَه ويمجّدَه ويكرّمَه، ويعترفَ به، فالله كامل بدوننا وقدّوس ولا ينقصه أي شيء لأنّه كاملٌ ومُسَبَّحٌ في ذاتِه.

غير أنّ هذا الإنسان الذي وضع الله فيه كلّ حبّه، حضّره أيضًا على مدى التاريخ لاقتبال هذا الحبّ عندما يتجسَّد في ملء الزمن. وبما أنّ الخليقة كلّها محدودة تُخطئ وتضعف وهي قادرة على نكران الله ورفضه، وقادرة إذا ما أرسل ابنه أن تصلبه، برغم كل هذا، لم يَكُفَّ الله عن خلق الإنسان، ولا عن إرسال ابنه متجسّدًا في ملء الزمن، مما يدل على جنون الحب الإلهيّ الذي لا يقف عند ضعف البشر ولا عند خطاياهم، حتى وإن ذهب ضعفهم إلى حدّ النكران والصلب. وقد عبّر يوحنـا الرسول عن ذلك في الرؤيـا بقولـه أنّ الحمل القائم أمام عرش الآب "مذبوح من قبل إنشاء العالـم"(رؤيا5: 6-9). لأنّ الابن الكائن في حضن الآب أدرك من قبل إنشاء الدهور أنّ تجسُّدَه سيؤدّي به إلى الصلب، وقَبِلَ هذا التدبير طوعًا بسبب حبّه.

غطس الله في بشريّتنا إذًا قبل أن يخلقها، نحن في صميم هذا الابن قبل كون العالم، نحن في صميم الابن قبل التجسُّد، لأنّنا في فكره وتدبيره وحبّه الأزليّ. لكن عندما صار الله إنسانًا، كانت المغامرة الكبرى، لأنّ الله دخل زمننا المحدود وطبيعتنا المحدودة مع كل نتائجها. المغامرة أخذته إلى إتّحاد كليّ بمعنى أنّه ربط مصيره كإنسان كليًّا ونهائيًّا بالإنسان. وهذا الإرتباط ليس عرضيًّا بل جوهريًّا، هو اتّحاد أبديّ، وليس لفترة من الزمن يعود بعدها الابنُ إلى السماء وحيدًا بل يحمل فيه البشريّة معه إلى السماء. هذا جنون. هذه مغامرة. وأكثر بعد، هذا إيمان بالإنسان الذي خلقه، لقد آمن بجواب سوف يتم. وأفاض بروحه "نَعَم" النِعَم الإلهيّة، حتّى تجيب "النَعَم" البشريّة على الحبّ الإلهيّ وتدخل في التدبير والقداسة واللاهوت والتألّه. ملء الزمن قد افتُتِح بِـ "نعم" مريم: لقد أجابت على جنون حبّه ومغامرة حبّه. ونحن إذ نُجيب ندخل ملء الزمن، ويحيا الابنُ فينا متجسِّدًا.

غطس الله في بشريّتنا وهو ينتظر الجواب

الله تجسد، غطس في بشريّتنا. الأسئلة الكبيرة التي تنتظر جوابنا: إلى أين بلغ تجذّر ابن الله بغطسته في بشريّتنا؟ ماذا طال من بشريّتنا؟ هل طال مستوى نفسيًّا، شعورًا بالتقوى، قبولاً له متردِّدًا، خليطًا من الله مع أشياء أخرى؟ أم أنه صار منبعًا لكل بشريّتنا حتى تهتدي وتستنير؟.

هل طال جسدنا؟ حرره؟ شفاه؟ خلّصه؟ أم لا زلنا في عداوة معه؟.

هل طال جنسنا؟ الذي لعب دورًا كبيرًا بالخربطة الكيانيّة والخطيئة والشهوة والنزوات والأنا والغريزة البعيدة عن الحبّ؟ هل شفاه وحرّره؟.

هل طال نفسنا بكل جذورها وأبعادها؟ أم لا زالت معقّدة و"مكركبة" ومجروحة بسبب من طفولة متعثّرة؟.

هل طال فكرنا حتّى يصبح هذا الأخير نقيًّا ومستنيرًا يقتبل الوحي الإلهيّ؟ أم لا يزال فكرنا ممتلئًا بألف مشروع ومشيئة، بدل الإصغاء لمشروع الله لأجلنا والدخول في مشيئته وحدها؟

كلُّ بشريّتنا قابلة للنّعمة. فلنُشرِّع كياننا لها، ففي النهاية عمل الله لأجلنا هو أن يأخذ كل شيء باتّجاه الحياة، ملء الحياة وليس "نصف حياة"، باتّجاه حياته الوافرة حيث قال: "جئت لتكون لكم الحياة بوفرة"(يو10:10).

أبناء الله مُحاطون بنعمته الوافرة فيهم. هذه النعمة الوافرة هي وحدها قوّة الجواب والمغامرة مِن قِبَل الأبناء. وأنا أدعوكم، كأبناء، إلى الإرتواء دائمًا من نبع الحياة: "كلمة الله" في الكتاب المقدّس، في القدّاس، وفي شركة الحياة بعضكم مع بعض في المحبّة؛ أدعوكم إلى المغامرة بالجواب على الدعوة إلى ملء الحياة في الربّ، وعيشها بجرأة وبلا تحفّظات، فتنقـادون بالروح القدس دون ضوابط، لأنّ الله "يعطي الروح بغير حساب" (يو3: 34)، فهو الذي باستطاعته أن يصنع من كل واحدٍ منّا مشروع قداسة وتألّه، وابنًا على صورة ابن الله الوحيد.