لا يختلف إثنان أنّ الكثير من الدول والقوى تدخّلت في ​سوريا​ دعمًا لهذا الطرف أو ذاك، منذ بدء الأحداث السورية في العام 2011 حتى اليوم. وكان الأبرز الجسر الجوي الذي أقامته طهران مع دمشق لنقل الأسلحة والمُقاتلين لمُساندة النظام السوري، في مُقابل الممرّ الحُدودي الذي وفّرته ​تركيا​ لإدخال الأسلحة والمُقاتلين للفصائل التي قاتلت نظام الرئيس السوري بشّار الأسد. لكنّ إختلاف الأولويّات والمصالح بين واشنطن وأنقره جعلهما يفترقان في أسلوب مُعالجة الملفّ السوري ويتحوّلان إلى مواقع مُتقابلة ومتناقضة، ما سمح ل​روسيا​ بتعزيز أوراقها السياسيّة ولسوريا بتعزيز أوراقها العسكريّة الميدانية. فما هي أسباب هذا التبدّل الإستراتيجي الجذري؟.

بحسب خُلاصة آراء مجموعة من الخبراء الغربيّين المُتابعين للملفّ السوري، إنّ الإدارة الأميركيّة التي خابت رهاناتها المُتعدّدة والمُتتالية على مجموعة واسعة من الفصائل المُسلّحة المُعارضة للنظام السوري، لم يبق لها من حليف عسكري على الأرض السوريّة، سوى ما أطلقت عليه إسم "قوّات سوريا الديمقراطية" (قسد) التي تُشكّل ​وحدات حماية الشعب الكردي​ّة هيكلها العسكري الأساسي. ومنذ تأسيس هذه الوحدات العسكريّة تقوم واشنطن بمدّها بالسلاح والمال، وتوفّر لها التدريب والمشورة، وهي وضعت خُطًطًا لزيادة عدد هذه الوحدات العسكريّة في إطار خطّة تقضي بنشرها في مناطق حُدودية مع ​العراق​ وتركيا، وكذلك بتوفير بيئة آمنة لمُعارضي النظام السوري وللجهات الداعمة لهم.

في المُقابل، إنّ تركيا-ودائمًا بحسب الخبراء أنفسهم، تتعامل مع قوّات "قسد" كتهديد إستراتيجي مُباشر لمصالحها نظرًا لتداخل علاقات هذه الوحدات العسكرية-ومن خلال "حزب الإتحاد الديمقراطي"، مع "حزب العمّال الكردستاني" الذي تصفه أنقره بالفصيل الإرهابي، مع التذكير بأنّها تُحاربه منذ عُقود. وتنظر تركيا بقلق إلى تنامي قُدرات قوّات "قسد" العسكرية، وإلى تنامي نُفوذها السياسي وإنتشارها الجغرافي أيضًا، كونها ترفض رفضًا مُطلقًا إقامة نواة منطقة حُكم ذاتي كردي على حُدودها، خوفًا من أن يُشجّع هذا الأمر الأقليّة الكرديّة في تركيا على تبنّي فكرة الإنفصال والإستقلال عن حُكم أنقره المركزي أكثر فأكثر.

ولفت الخبراء الذين يُتابعون الملفّ السوري عن كثب، إلى أنّ التباين بين واشنطن وأنقره بشأن الملفّ الكردي، أسفر إلى جانب غيره من الأسباب بطبيعة الحال، عن إبتعاد تركيا عن الحضن الأميركي وإقترابها أكثر فأكثر من الحضن الروسي، باعتبار أنّ تركيا وروسيا يلتقيان على رفض تقسيم سوريا، وعلى رفض إقامة "كانتون" عرقي فيها. وإذا كانت أنقره ترغب بإضعاف الفصائل الكردية المُسلّحة قدر المُستطاع، فإنّ موسكو ترغب من جهّتها بمنع واشنطن من إيجاد موطئ قدم مريح لها داخل الأراضي السورية، وبحصر إنتشار القوّات الأميركيّة ضمن مساحات محدودة ومُهدّدة أمنيًا. وأضاف هؤلاء أنّ المعركة التي أطلقتها تركيا ضدّ ​الأكراد​ في ​عفرين​، حظيت بمُوافقة روسيا، نتيجة إلتقاء المصالح بين الطرفين، بعكس ما قد تُوحي به بيانات الإدانة الصادرة عن مسؤولي النظام السوري والتي تدخل في سياق رفع العتب الإعلامي. وكشف الخبراء أنفسهم أنّ موسكو التي تُحضّر الأجواء المناسبة لمؤتمر "سوتشي" مطلع الأسبوع المقبل، ترغب بكسب التأييد التركي لخُططها للحل السياسي للحرب السوريّة، بينما ترغب أنقره ألاّ يكون للإتحاد الديمقراطي الكردي أي تأثير يُذكر في هذه المُحادثات.

إشارة إلى أنّ العديد من التقارير الإعلاميّة تحدّثت عن أنّ مسؤولين عسكريّين سوريّين كانوا تواصلوا في الأيّام القليلة الماضية مع مُمثّلي "وحدات حماية الشعب الكردي" عارضين عليهم تسليم مواقعهم للجيش السوري، تجنّبًا للتعرّض لهجمات تركية قاتلة، الأمر الذي إعتبرته هذه التقارير تنسيقًا واضحًا-ولوّ بشكل سرّي، بين كل من تركيا وروسيا وسوريا على حساب المصالح الكرديّة. وذكرت تقارير إعلاميّة أخرى أنّ موسكو غضّت النظر عن العمليّة العسكرية الجويّة والبرّية التركية في عفرين، في مُقابل قيام أنقره بسحب الوحدات المُوالية لها من جنوب إدلب تسهيلاً لنجاح الهجمات التي يقوم بها الجيش السُوري هناك.

في الخلاصة، يُمكن القول إنّ روسيا هي من بين أبرز المُستفيدين من خلاف واشنطن وأنقره بشأن الأكراد في سوريا، لكنّ المُستفيد الأكبر يبقى الرئيس السوري بشّار الأسد الذي يُواصل إسترجاع الأراضي السورية ليس بقُوته الذاتية، لكن بفعل إنقسامات وخلافات وتقاتل خُصومه في ما بينهم، إضافة إلى غياب الإستراتيجيّة الأميركيّة الفعّالة في مُقابل حسن إستغلال روسيا لكل الأوراق بيدها.