عند إقرار القانون الانتخابيّ القائم على النسبية مع الصوت التفضيليّ، والذي ستجرى الانتخابات النيابيّة في أيار المقبل على أساسه، حُكي الكثير عن "حِيَلٍ" قد تلجأ إليها الأحزاب السياسيّة، ولا سيما التقليديّة منها، للحفاظ على "احتكارها" للمقاعد، ومنع "خرقها". ومن بين "الحِيَل" التي نُسِجت حولها الكثير من الروايات، فكرة تشكيل بعض الأحزاب لأكثر من لائحة، بطريقةٍ تجعلها قادرة على تحويل المنافسة إلى "أهليّة بمحلية" في أسوأ الأحوال، أي بين لوائح من أهل البيت الواحد.

عند التطبيق، بدأت مثل هذه الأفكار تتراجع، بعد تبيان عدم جدواها من ناحية، وافتقادها للمنطق من جهةٍ ثانية، إذ إنّها ستؤدّي لـ"انفصامٍ حزبيّ" قلّ نظيره، فضلاً عن احتمال أن تضرّ أكثر ممّا تنفع نتيجة تشتيت الأصوات، الذي يمكن أن يستفيد منه الخصوم، على أكثر من صعيد. لكن، ولأنّ لكلّ قاعدة استثناءات، هناك من يقول إنّ هذه "الحيلة" بدأت تدخل حيّز التنفيذ، وتحديدًا في دائرة ​بيروت​ الثانية، الدائرة التي يترشّح فيها رئيس الحكومة سعد الحريري، والتي تواجه فيها "الحريرية السياسية" خطر "الخرق" للمرّة الأولى في تاريخها الحديث...

خمس لوائح وأكثر!

لا يبدو غريبًا القول إنّ دائرة بيروت الثانية هي من الدوائر التي بدأت الصورة الانتخابيّة تتّضح فيها بشكلٍ أو بآخر، خصوصًا أنّها هي من الدوائر التي حسم فيها "​تيار المستقبل​" قراره بخوض المعركة بمفرده، من دون أيّ تحالفاتٍ مباشرة، كونها تشكّل معقلاً له، وبالتالي فهو ليس مضطرًا للتنازل لأحد من "كيسه"، طالما أنّه قادر على "ضمان" الفوز بعددٍ لا بأس به من مقاعد هذه الدائرة بـ"عضلاته".

وتشير كلّ المعطيات المتداولة إلى أنّ لائحة "المستقبل" في بيروت الثانية باتت شبه جاهزة، وهي لا تحتاج سوى لوضع اللمسات الأخيرة عليها من قبل رئيس الحكومة سعد الحريري، الذي يوليها أهمية قصوى في السياق الانتخابي، خصوصًا أنّها الدائرة التي يترشّح على الصعيد الشخصيّ عنها. وإذا كان من المرجّح أن تضمّ إلى الحريري، كلاً من رئيس الحكومة الأسبق تمام سلام ووزير الداخلية نهاد المشنوق، الذي بدأ حراكه الانتخابيّ بشكلٍ لافت منذ فترة، وإن كان كثيرون يستغربون كيف يمكنه أن "يوازن" بين كونه وزير الداخلية المشرف على العملية الانتخابية، بما يفترضه هذا الموقع من حيادية، وكونه أحد المرشّحين الأساسيّين للانتخابات، بما يفترضه هذا الموقع من انحياز، فمن المحسوم أنّ باقي الأسماء التي ستضمّها اللائحة ستكرّس "التغيير" الذي يريده "الشيخ سعد" عنوانًا لمعركته "البيروتيّة"، مع تغيير معظم أسماء النواب الحاليّين، ومراعاته إدخال العنصرين الشبابي والنسوي إلى متن لائحته.

وفي مقابل هذه اللائحة، هناك أربع لوائح بالحدّ الأدنى تنافس الحريري في عقر داره، على رأسها طبعًا لائحة "الثنائي الشيعي" المتحالف مع عدد من القوى الأخرى، على غرار ​جمعية المشاريع​ "الأحباش" و"​الحزب القومي​" وحزب "المؤتمر الشعبي". وتشير المعلومات إلى أنّ هذه اللائحة لن تكون مكتملة، وأنّ ما يسعى إليه "الثنائي الشيعي" من خلالها استعادة المقعدين الشيعيين في العاصمة ليس إلا، بعد ما يعتبره "مصادرة" لهما من جانب التيار "الأزرق"، وهو يريد توجيه رسالة "ضمنية" للحريري، بعدما ذهب بعيدًا في خطابه المناهض لـ"حزب الله"، من دون الوصول إلى حدّ خوض معركة حامية حقيقيّة.

وفيما يعمل رئيس حزب "الحوار الوطني" فؤاد مخزومي من جهته لتشكيل لائحته الخاصة والمستقلة، بعدما صرف النظر عن إمكان التحالف مع "المستقبل" كما روّج البعض في مرحلةٍ سابقة، ساعيًا من خلال ذلك للخرق ولو بمقعده فقط، للتأكيد على حيثيته الشعبية والخدماتية في العاصمة، فإنّ قوى المعارضة والمجتمع المدني تبدو مشتّتة حتى إشعارٍ آخر، وهناك من يقول إنّ جهود توحيدها في لائحة واحدة قد لا تنجح، ما سيؤدّي لخلق لائحتين، الأمر الذي لن يكون لصالحها، علمًا أنّ "​حركة الشعب​" بدأت بتشكيل لائحة، فيما بعض القوى المدنية تستمرّ بمفاوضاتها، وسط شائعاتٍ لا تزال تطال بعض هذه المجموعات.

اللائحة-اللغز...

وإلى جانب كلّ ما سبق من لوائح، هناك لائحة "كرامة بيروت"، التي يترأسها رئيس تحرير صحيفة "اللواء" صلاح سلام، والتي يمكن تسميتها باللائحة-اللغز في بيروت الثانية، فهي بخلاف ما عداها، تبدو لائحة "توافقية" إلى أبعد الحدود، حتى مع رموز وقوى لطالما اعتُبِرت مقرّبة من "تيار المستقبل" أو محسوبة عليه، إذ إنّها تحرص على عدم "الصدام" معه بأيّ شكلٍ من الاشكال، بل هناك من يقول إنّ هذه اللائحة تحظى بـ"رعاية" غير مباشرة من المملكة العربية ​السعودية​، التي كان سلام واضحًا بقوله في سلسلة من التصريحات إنّ لائحته لن تضمّ أيّ اسمٍ يمكن أن يشكّل "مصدر استفزاز" لها، أو لغيرها في الساحة البيروتية.

وإذا كانت هذه اللائحة تقوم على استقطاب "العائلات البيروتية"، ولا سيما العريقة منها، فإنّ المعلومات تشير إلى أنّ التحالف مع "الجماعة الإسلاميّة" حُسم أيضًا، حيث سيكون النائب الحاليّ عن "الجماعة" عماد الحوت جزءًا أساسيًا منها، وهو ما أعلنه الحوت شخصيًا، بعدما كان يتفاوض في وقتٍ سابقٍ مع "تيار المستقبل". ووفقًا لما هو متداول، فإنّ الجزء الأكبر من تركيبة لائحة "كرامة بيروت" بات محسومًا، ومن بين الأسماء التي تمّ حسمها على هذه اللائحة، إضافةً إلى سلام والحوت، كلّ من رئيس المركز الإسلامي علي عساف، رئيس نادي "الأنصار" لكرة القدم نبيل بدر، العميدة المتقاعدة في الأمن العام دلال رحباني عن المقعد الإنجيلي وغيرهم.

وفي الوقت نفسه، تشير المعلومات إلى أنّ الاتصالات جارية أيضًا مع بعض قوى وهيئات المجتمع المدني للانضمام لصفوف هذه اللائحة، ولا سيما المرشح إبراهيم منيمنة، الذي كان قد ترأس لائحة "بيروت مدينتي" في الانتخابات البلدية الأخيرة في مواجهة لائحة "البيارتة" التي كانت مدعومة من "تيار المستقبل"، علمًا أنّ منيمنة، الذي سبق أن قيل إنّ الوزير السابق أشرف ريفي يتفاوض معه أيضًا، يحرص على نفي ما يُحكى عن إمكان انضمامه للوائح تضمّ رموزًا في السلطة، سواء السابقة أو الحاليّة.

وعلى الرغم من "الاستقلالية الجزئيّة" التي توحي بها تشكيلة هذه اللائحة وتركيبتها، فإنّ علامات الاستفهام التي تُطرح في الشارع "البيروتيّ" خصوصًا عن ارتباطها غير المباشر بلائحة "المستقبل" أكثر من أن تعدّ وتُحصى، ليس فقط لأنّ "المستقبل" أصلاً كان يدرس فكرة خوض الانتخابات من خلال لائحة رديفة، قيل أنّ الوزير المشنوق قد يترأسها، قبل أن يُطرَح اسم رئيس الحكومة الأسبق تمام سلام، ومن ثمّ يُصرَف النظر عن الفكرة نتيجة الضياع الذي تسبّبت به، ولكن أيضًا لأنّ مثل هذه اللائحة غير المستفزّة لـ"المستقبل" ولا المؤذية له، من شأنها أن تخدمه أكثر ممّا تضرّه. فإذا كانت هذه اللائحة قادرة على فعل شيء، فهي على استقطاب الكثير من الأصوات "البيروتية" المتردّدة، التي لا تغرّد في السرب "المستقبليّ" لكنّها لا تغرّد أيضًا في السرب "المناهض" له، وهذا الأمر من شأنه خدمة "المستقبل" من خلال رفع الحاصل الانتخابي، بحيث يصبح أصعب على اللوائح الأخرى تأمينه، لخرق لائحة "التيار الأزرق"، وإن كان من المتعذر منع هذا "الخرق" بصورةٍ مطلقة.

قيمة مضافة؟!

الأكيد أنّ لائحة مثل لائحة "كرامة بيروت" كانت لتشكّل قيمة مضافة على المنافسة الانتخابية الرياضيّة، من دون أن تثير أيّ جدلٍ، لو أنّ المعركة كانت تحصل في ظروفٍ طبيعيّة، وليس على وقع قانونٍ نسبيّ جديد لا يزال عصيًا على الفهم من قبل القوى السياسيّة، الضائعة حدّ الارتباك بين الحاصل الانتخابي والصوت التفضيليّ وما بينهما.

انطلاقاً من ذلك، فإنّ هذه اللائحة قد تكون مستقلّة بالفعل، جزئيًا أم كليًا، خصوصًا أنّ حقّها البديهيّ أن تخوض غمار المنافسة، إلا أنّ طابع الانتخابات غير المسبوق يجعل أيّ حركةٍ في البلد ذات طابع انتخابيّ، فكيف إذا كان في العاصمة بيروت، التي تؤرق انتخاباتها تياراً لطالما احتكر مقاعدها...