أفعالٌ ثلاث قام بِها يسوع أثناء العشاء الأخير مع تلاميذه في العليّة: قام وخَلّعَ وغَسَل، وبها الثلاث كشف يسوع عن سرّ مجيئه إلى العالَم.

1- قامَ عن العشاء

"قام عن العشاء"(يو13: 4أ)، وعادة لا يقوم عن الطاولة مَن جلس عليها حتّى الإنتهاء من تناول الطعام. هذا على الأقَلّ ما تفرضه أدبيّات الطاولة، فالمُكرَّمُ يجلِس والمُكَرِّمُ يَخدم.

يَظهر يسوع في العشاء الأخير في صورَة المُكَرِّم وهو المُكَرَّم. يختار في اللحظات الأخيرة والحاسمة من حياته، وقبل انتقاله إلى الآب، أن يُكَرِّم تلاميذه، فيدعوهم إلى إعداد عشاء ​الفصح​: "إذهبا فأعِدّا لنا الفصحَ لِنأكُلَه"(لو22: 8)، ليُسلّمهم ذاته في كامل المحبّة، قبل أن يُسلّم ذاته للصلب والموت.

في هذه الليلة سينال التلاميذ كُلَّ الكرامة الكهنوتية، وذلِك بعد أن يغسلهم يسوع بالكامل من خطاياهُم، ويستَحِمّوا بنار النّعمةِ المُطهّرة(يو13: 10)، فيُصبِحوا أهلاً لأن يأكلوا الفصح الجديد مع المُعلِّم، الذي سيُعطيهِم جسده ودمه مأكلاً ومشرباً، ويصنعوا ذلِك لذكره حتى مجيئه(لو22: 19).

2- وخلَع رداءه

"وخلع رداءه"(يو13: 4ب). الرداء هو الرداء الملوكي، وخلعُه يُشير إلى إخلاء الذات. فيسوع "أخلى ذاته"، أي ترك عِزَّةَ مجده، وتَجرَّدَ مِن ذاتِه وصارَ على هَيئَةِ البَشَر وجاء للقائنا(فل 2: 7).

يُعبّر خَلع الرداء أيضاً عن بذلِ يسوعَ لحياته. فيسوع في خلعه ثيابه وائتزاره من جديد، يُشير إلى حريّته المُطلقة على حياته: "لي السلطة على أن أبذل حياتي ولي السلطة على أن أستردّها"(يو10: 18).

"وأخذ منديلاً وائتزر به"(يو13: 4). الخادم عادةً هو مَن يأتزر بالمنديل ليخدُم المدعوين، وصاحب الدعوة والمدعوون إلى العشاء لا يخدمون، بل يُخدَمون. يسوع هُنا هو في صورة الخادم، "أنا بينكم كالخادم"(لو22: 27)، الذي جاء إلى العالم ليَخدُم، وليجمع القريبين والبعيدين تحت سقف المحبّة الأخوية، ويشُدَّ الإنسان إلى الله.

3- وصَبَّ ماءً وراح يغسل

"وصبَّ ماءً وراح يغسِلُ أرجُلَ التلاميذ"(يو13: 5). المحبّة وحدها تنظر إلى الأسفل لأنّها متواضعة. تُريد الآخر، تبحث عنه حتّى في الأماكن الوضيعة، في الضعف وفي الحاجة لأنّها تُريد أن ترفع الآخر. من هُنا نفهم كلام يسوع لبطرس: "إن لَم أُغسلك فليس لك نصيب معي في ملكوت السماوات"(يو13: 8)، فمن يدخل الملكوت عليه أن يكون طاهرا جدّاً ونظيفاً جدّاً، ومَن هو الطاهر والنظيف إلاَّ ذاك الذي يُغسله الله من خطاياه ويجعله طاهراً!.

ترك لنا يسوع ذاته في سرّي الإفخارستيا والكهنوت لكي يُساعدنا على الإرتقاء إلى فوق. قال لنا أنا معكم وأُرافقكم إلى انتهاء العالَم في سرّ الإفخارستيا لأكون لكم طعاماً يؤكَل على الدوام. لقد أعطيتكم قوّة فخذوا هذه القوّة وتقوَّوا بي: "خذوا كلوا هذا هو جسدي واشربوا هذا هو دمي... اصنعوا هذا لذكري"(1كور11: 24). خذوا كُلوا واشربوا لكي لا تُخور قواكم وأنتم تسيرون في الطريق فتموتوا من الجوع والعطش، لأن مَن يأكل يموت، ومن لا يشرب يموت.

صلاة

أيّها الخُبزُ الحيّ النازل من السماء والساكن بيننا، أحينا بجسدك ودمك، وامنحنا بِتناولهما الحياة الأبدية المُعدّة لنا. آمين.