منذ إقدام الرئيس الأميركي ​دونالد ترامب​ على الانسحاب من ​الاتفاق النووي​ الموقع مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية من قبل مجموعة الخمسة زائد واحد، ومصادقة ​مجلس الأمن الدولي​ عليه، ولا تزال تطرح الكثير من التساؤلات حول مصير الاتفاق .

هل يصمد وتبقى الدول الأخرى الموقعة عليه ملتزمة بتنفيذه لاسيما الدول الاوروبية الثلاث ، بريطانيا، فرنسا، والمانيا، لان روسيا والصين، ليس هناك شك في مدى جدية استمرارهما بالالتزام بالاتفاق ورفض الانسحاب منه .

فمن المعلوم أن طهران ربطت مواصلة التزامها التقيد بالاتفاق، بالموقف الأوروبي،

والضمانات العملية التي ستقدمها الدول الأوروبية لإيران خصوصاً لناحية استمرار الواردات النفطية الإيرانية إلى الأسواق الأوروبية، والتحويلات المالية، وبقاء استثمارات الشركات الأوروبية في إيران، وهذه الضمانات هي التي تشكل المكاسب الأساسية التي دفعت إيران للحفاظ على التزامها بالاتفاق على الرغم من عدم الالتزام الأميركي به .

لا شك في أن المؤشرات الأولية تشير إلى رغبة الدول الأوروبية بعدم الانسحاب من الاتفاق، لكن هناك من يشكك في قدرتها على التمرد على نظام الهيمنة الأميركية من ناحية وفي قدرتها على الزام الشركات الأوروبية في عدم سحب استثماراتها من إيران، تجنباً من التعرض للعقوبات الأميركية وخسارة مصالحها الحيوية في أميركا، التي تعتبر بالنسبة لبعضها أهم من التمسك باستثماراتها الحديثة في إيران انطلاقاً من قاعدة الربح والخسارة من ناحية ثانية .

هناك عوامل تعزز الشك بقدرة أوروبا على البقاء في الاتفاق، وعوامل أخرى مستجدة ترجح اتجاه أوروبا نحو التمسك بالاتفاق والتحرر من الهيمنة الأميركية:

أولاً: على صعيد عوامل الشك يمكن تسجيل ثلاثة منها:

العامل الأول: عدم انتظار بعض الشركات الأوروبية قرار دولها الأساسية، حيث سارع بعضها إلى القفز من المركب، وبدأت تحضر نفسها لسحب استثماراتها من إيران، مثل شركة ​توتال​ الفرنسية.

العامل الثاني: ارتباط أوروبا ب​الولايات المتحدة الأميركية​ منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، بوشائج التبعية الاقتصادية والمالية والعسكرية والأمنية والتي تأسست وتعززت بداية بمشروع مارشال لإعمار أوروبا مروراً بالنظام المالي الدولي الذي أنشأ وكرس هيمنة أميركا عليه .

وباتت أميركا بموجب هذا النظام تتحكم بنظام التحويلات المالية بالدولار وربطت البنوك العالمية بالمركز المالي في نيويورك وانتهاءً بإنشاء حلف ​الناتو​ بقيادة أميركا وبناء منظومة الحماية والأمن الأوروبية على قاعدة الهيمنة الأميركية .

العامل الثالث: ويكمن في كون ميزان المصالح الأوروبية مع إيران مقارنة مع أميركا، لازال ضعيفاً ولا يغري الدول الأوروبية على الاستمرار في البقاء في الاتفاق النووي والوقوف بوجه العقوبات الأميركية، وهو الأمر الذي عبرت عنه صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية بالقول ، " أوروبا لا تملك العديد من الخيارات".

ثانياً: في مقابل هذه العوامل التي تجعل أوروبا أسيرة العلاقة مع أميركا هناك عوامل أخرى مستجدة تؤشر إلى إمكانية تمرد الدول الأوروبية على القرار الأميركي والصمود في مواجهة نظام العقوبات الذي قررت ​واشنطن​ اتخاذه ضد أي شركات دولية تواصل الاستثمار في إيران، وهذه العوامل هي:

1 ـ إن أوروبا ضاقت ذرعاً بالطريقة المهينة والسيئة التي يتعامل معها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي يتخذ القرار من دون مشاورتها، ويدعوها إلى السير خلفه دون نقاش .. أو حتى حد أدنى من حفظ ماء الوجه .

2 ـ تنامي الشعور في أوروبا بان أميركا لم يعد يهمها سوى مصالحها الخاصة، وإنها غير مكترثة بالمصالح الأوروبية وأخذها بالاعتبار، وهذا الشعور تعزز مؤخراً بقرار ترامب فرض الرسوم على دخول مادتي الحديد والألمنيوم إلى الولايات المتحدة .. وبقرارات فرض العقوبات على روسيا،مما اضر بمصالح أوروبا.

3 ـ إدراك العديد من الدول الأوروبية، وخصوصاً المانيا، بأن السياسة الأميركية لم تعد متوازنة، وهي تتخبط ولا تراعي التوازنات الدولية ولا تحترم توقيعها على الاتفاقات الدولية في وقت ترى فيه أن مثل هذه السياسة لا أفق لها وهي تعرض الأمن والاستقرار الدولي والإقليمي لمزيد من التوترات والاضطرابات، وهو ما أشارت إليه المستشارة الألمانية ميركل تؤكد "أن العلاقات الأوروبية الأميركية تعرضت لانتكاسة بعد القرار الخاص بإيران، وأن خروج ترامب من الاتفاق النووي جعل الوضع الإقليمي أكثر توتراً .

4 ـ التحولات الاقتصادية الدولية التي غيّرت من موازين القوى الاقتصادية وأدت إلى انتقال مركز الثقل في الاقتصاد العالمي من الغرب إلى الشرق، في وقت تتوافر للدول الأوروبية فرصاً وإغراءات كبيرة للخروج من اسر التبعية لأميركا، فالصين الصاعدة اقتصادياً والتي تحولت إلى مصنع العالم، وروسيا الرأسمالية التي استعادت دورها الدولي وتنهض اقتصادياً وأصبحت تحتل المرتبة الخامسة دولياً وإيران التي تتوافر فيها إمكانيات كبيرة للاستثمار، وهي تملك ثروات هامة ، وغيرها من الدول المنضوية في اطار مجموعة البر يكس أو منظمة شنغهاي للتعاون الاقتصادي، التي تقدم بدائل لأوروبا وتشجعها على أخذ قرار البقاء في الاتفاق النووي والصمود في مواجهة الضغوط الأميركية والعقوبات الأميركية.

على أن هناك مؤشر قوي على اتجاه أوروبا إلى سلوك هذا الخيار، تمثل أخيراً في الاتفاق الذي تم بين إيران وكل من الدول الأوروبية الموقعة على الاتفاق( بريطانيا، المانيا، فرنسا) ويقضي بحصول ​ايران​ على ضمانات لاستمرار وارداتها النفطية إلى السوق الأوروبية وكذلك التعاملات المالية، بعيداً عن أي تأثر بنظام العقوبات الأميركية، وذلك مقابل استمرار التزام إيران بالاتفاق وعدم الانسحاب منه رداً على الانسحاب الأميركي.

وتبع هذا الإعلان عن هذا الاتفاق تصريح لـ ​فيديريكا موغيريني​ مسؤولة الشؤون الخارجية في ​الاتحاد الأوروبي​ أكدت فيه إننا " لن ننسحب من الاتفاق النووي ما دامت إيران ملتزمة به وانه ليس هناك حل بديل عن الاتفاق مع إيران" .

على أن اتجاه أوروبا ( حسب قول الكاتب جنيفر روبن في ​صحيفة واشنطن بوست​ الاميركية)، للنظر الآن إلى الرسائل المادية التي يمكن ان تكون في غير متناول واشنطن.. وأنها ستطبق القانون الأوروبي ضد الشركات الموجودة في الخارج ضمن ردّ بالمثل على إجراءات تتخذها واشنطن ضد الشركات غير الاميركية مؤشراً أخر على هذا التوجه الأوروبي الجديد.

وإذا ما أصرت أوروبا على الاستمرار بالاتفاق والالتزام في تنفيذ اتفاق الضمانات مع إيران فان ذلك سيشكل بكل تأكيد تحولاً هاماً في مسار العلاقات الدولية يعزز طموح روسيا والصين لفك عرى التحالف والترابط بين أوروبا وأميركا، والتعجيل في إعادة بناء النظام الاقتصادي والمالي الدولي على قواعد جديدة تضع حداً للنظام الاقتصادي والمالي الدولي، الذي تهيمن عليه أميركا منذ الحرب العالمية الثانية، وتستخدمه وسيلة لمعاقبة وإخضاع كل من يعارض السياسات الأميركية، أو يتمرد عليها.