باتت معظم القوى السياسية ال​لبنان​ية مُجمِعة على أنّ ​النزوح السوري​ يشكّل أزمة للبنان تفوق طاقاته وقدراته. لم يعد من يتحدّث بهذا المنطق يُتّهَم بالعنصرية كما كان يحصل في بدايات الأزمة، وتوقف معارضوه عن المقارنة بين الحرب السورية وحرب تموز 2006 وكيف استقبل السوريون المهجَّرين اللبنانيين على مدى 33 يوماً.

لا شكّ أنّ الكثير تغيّر في مقاربة الأطياف السياسية المختلفة لأزمة النزوح الآخذة في التصاعد. الموالون للنظام السوري كما المعارضون له يتّفقون على أنّ لبنان لم يعد قادراً على تحمّل تداعيات الأزمة وما يمكن أن تفرزه من توطينٍ للاجئين كما يخشى البعض، أو انتظار الحلّ السياسي الذي قد لا يأتي في المدى المنظور.

لكن الاتفاق على المبدأ لا يزال عصيًا على الترجمة على أرض الواقع، نظراً للخلاف المستمرّ والمستفحل حول التطبيق بين من يدعو إلى وجوب التنسيق مع ​الحكومة السورية​ ومن يرفض ذلك بالمُطلَق. ولعلّ الجدل الذي أثارته الإجراءات الأخيرة التي نفّذها وزير الخارجية ​جبران باسيل​ يختصر المشهد، فاللبنانيون متّفقون، لكنّ اتفاقهم يبقى منقوصاً...

بين الحريري وباسيل

حتى لو كان صحيحاً أنّ وزير الخارجية في حكومة تصريف الاعمال جبران باسيل أراد من خلال الإجراءات الأخيرة التي اتخذها بحق المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة في لبنان، والقاضية بتجميد طلبات الإقامة المقدّمة لصالحها احتجاجاً على وقوفها ضدّ العودة الطوعية للاجئين إلى سوريا بل قيامها بتخويفهم من تبعات مثل هذه الخطوة، أن يذهب إلى الأمام في معارضته نوايا المجتمع الدولي بتوطين ​النازحين السوريين​ في لبنان وغيره من الدول المستضيفة، فإنّ الأكيد أنّ "الإجماع" اللبناني على أزمة النازحين لم ينعكس "إجماعاً" على خطوات باسيل بأيّ شكلٍ من الأشكال.

وبمعزلٍ عن صحّة التحليل الذي ذهب إليه البعض، والذي يقول إن باسيل أقدم على ما أقدم عليه للتغطية على مرسوم التجنيس المثير للجدل ليس إلا، بعدما أحدثه الأخير من ردة فعل سلبية في مواجهة العهد، فإنّ التباين الذي أفرزته خطوته مع رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري، على الرغم من الشراكة الكاملة التي يحرصان على إظهارها في الآونة الأخيرة، لم يبدُ خافياً على أحد. وإذا كان الحريري لاذ بالصمت، ولم يصدر عنه بشكل مباشر أيّ كلامٍ مؤيد أو رافض لما أقدم عليه باسيل، فإنّ اللقاء الذي عقده قبل مغادرته لبنان إلى روسيا ومنها إلى السعودية، مع المنسق المقيم للأمم المتحدة منسق الشؤون الإنسانية في لبنان ​فيليب لازاريني​ وممثلة مكتب ​المفوضية العليا لشؤون اللاجئين​ في لبنان ميراي جيرار، بدا أشبه بمحاولة "معالجة" الذيول التي أحدثها قرار باسيل بحق المفوضية.

وفي وقتٍ يمكن اعتبار تصريح الحريري بعد اللقاء أنّ "الحل النهائي في ما يخص النازحين، بالنسبة إلى لبنان و​الأمم المتحدة​، هو في عودتهم إلى سوريا"، يبقى حمّال أوجه، كونه لم يحدّد أيّ أجلٍ لهذه العودة وظروفها، ثمّة من يقول إنّ هذا الاجتماع جاء بمثابة ردّ غير مباشر من الحريري على باسيل، أولاً لأنّ الأخير "تفرّد" بقراراته، من دون التنسيق مع ​رئاسة الحكومة​، رغم علمه بما يمكن أن يترتّب عنها من مواجهة للمجتمع الدولي، وتداعيات ذلك التي لن تكون في صالح لبنان بأيّ شكلٍ من الأشكال، وثانياً لأنّ الاجتماع حصل بحضور مستشار الحريري لشؤون النازحين نديم المنلا، ولذلك رمزيّة واضحة، باعتبار أنّ الأخير كان أول من انتفض ضدّ قرارات باسيل وقال إنّها لا تعكس موقف الحكومة، إلا أنّه اصطدم برأي يقول إنه يعبّر عن وجهة نظره الشخصية، وليس عن مقاربة رئيس الحكومة.

إلى البيان الوزاري دُر

لم ينهِ اجتماع الحريري مع لازاريني وجيرار الأزمة التي نتجت عن قرار باسيل، رغم ما صدر عنه من تأكيد باسيل وجود "اتفاق" مع المفوضية على كيفية حلّ الأزمة، وتأكيد لازاريني في المقابل أنّ "المفوضية لن تعيق أبداً أي عودة يمكن أن تحصل، تكون قائمة على قرار النازحين الخاص"، مشيراً إلى أنه "سيكون غير قابل للتصديق أن تعارض الأمم المتحدة قرار اللاجئين بشأن مستقبلهم".

وإذا كانت الآراء تباينت بين من اعتبر زيارة باسيل إلى جنيف للحلّ بدليل قوله إنّه مستعد لرفع الإجراءات التي اتخذها بحق المفوضية في حال لمس تغييراً في أدائها، ومن قرأ فيها في المقابل استمراراً في التصعيد، ومن عقر دار المفوضية، بدليل أنّه لوّح أيضاً بالمزيد من الخطوات "العقابية" في حال لم يلمس أيّ تغيير في الأداء، ثمّة قناعةٌ لدى كثيرين بأنّ الأزمة لن تتوقف عند هذه الحدود، بل ستصل إلى البيان الوزاري للحكومة الجديدة، الذي يصرّ "​التيار الوطني الحر​" على أن يتضمّن إعلاناً واضحاً وصريحاً يتعلق بأزمة النازحين السوريين وضرورة حلّها.

من هنا، يرى البعض أنّ الخلاف الذي كان يحصل سابقاً على البند المتعلق بمقاومة إسرائيل، وما كان يُسمّى بـ"عقدة الثلاثية"، في إشارة إلى ثلاثية الجيش والشعب والمقاومة، سيتنحّى هذه المرة في ظلّ اتفاق مسبق على "استنساخ" البيان السابق، ليخلي الساحة لخلافٍ جديدٍ حول قضية النازحين. وفي هذا السياق، يرى البعض أنّ "التيار الوطني الحر" لن يقبل بكلامٍ إنشائي عام، بل سيصرّ على موقفٍ حازمٍ من الحكومة يتضمّن استراتيجية لا تحتمل التسويف، وبما ينسجم بالحدّ الأدنى مع المواقف شبه اليومية التي يعلنها رئيس الجمهورية ميشال عون من ضرورة عدم انتظار الحلّ السياسيّ.

ولعلّ الكلام "المفاجئ" الذي صدر هذا الأسبوع عن عضو كتلة "الكتائب" النائب نديم الجميل، والذي حمل إقراراً بضرورة التنسيق مع حكومة النظام السوري، كما قال، هو ما يريده "العونيّون" مَدخَلاً لهذا الحلّ، خصوصاً أنّ الجميع بات يدرك أنّ هناك مناطق آمنة في سوريا يمكن أن يلجأ إليها النازحون، وهذا ما يمكن للتنسيق أن يحققه، ولو اقتصر على بعض الوزراء المقرّبين من النظام، وكذلك القيادات الأمنية التي تنسّق أصلاً مع الحكومة السورية، وعلى رأس السطح.

حلّ قريب؟

"لا عودة عن العودة". هي المعادلة التي أطلقها وزير الخارجية في مواجهة أزمة النازحين، معادلة يتّفق اللبنانيون على فحواها، لكنّهم يختلفون حتى إشعارٍ آخر على طريقة حصولها، كما يختلفون على توقيتها ربطاً بالتطورات السورية.

يتّفق اللبنانيون على أنّ النزوح السوري بات يشكّل بالنسبة إليهم عبئاً يفوق طاقتهم على التحمّل، لكنهم لا يتّفقون على أنّ أوان العودة قد حان، ولا يتّفقون بالطبع على الاصطدام مع المجتمع الدولي، في هذه المرحلة بالتحديد.

وأكثر من ذلك، ثمّة من يعتقد أنّ خلف هذا "الخلاف" خلافاً أكبر، ينطلق أصلاً من الخلاف مع وزير الخارجية، والتشكيك بـ"نواياه" من خلال كلّ ما أقدم عليه، ولذلك، فإنّ الحلّ النهائي للأزمة يبقى بعيد المنال، مهما ارتفعت الأسقف في القادم من الأيام...