قبل ​الانتخابات النيابية​ الأخيرة، أبلغ "​حزب الله​" من يعنيهم الأمر أنّ من الأولويات التي سيعمل عليها فور انتهاء مساحة "اللعب الانتخابي"، وضع حدٍ للخصومات الآخذة في التصاعد بين حلفائه، ولا سيما بين "​حركة أمل​" و"​التيار الوطني الحر​" من جهة، وبين الأخير و"تيار ​المردة​" من جهة ثانية.

بعد الانتخابات، بدأ اللبنانيون يلمسون "الترجمة" على خط العلاقة بين رئيسي الجمهورية ​ميشال عون​ والمجلس النيابي ​نبيه بري​. من القمّة التي جمعت الرجلين في ​قصر بعبدا​ إلى الحلّ "السَّلِس" للأزمة التي كادت تنشب على خلفية تمرير مرسوم القناصل الفخريين من دون توقيع وزير المال، يمكن القول إنّ الأمور تحسّنت بين الجانبين إلى حدّ بعيد.

في المقابل، لا يبدو أنّ شيئاً طرأ على خط العلاقة بين "التيار" و"المردة"، بل إنّ المعنيّين يحرصون على عدم تحميل زيارة نائب رئيس مجلس النواب، عضو تكتل "​لبنان القوي​" ​إيلي الفرزلي​، إلى ​بنشعي​ أكثر ممّا تحمل، عبر إعطائها صبغة "شخصية" من دون أيّ أبعاد أخرى، ما يدفع إلى التساؤل، هل نفض "حزب الله" يده عملياً من هذه الوساطة؟.

هدنة قد تسقط؟!

توحي الوقائع والمُعطيات أنّ ما يسري على "التيار الوطني الحر" و"حركة أمل" لا يسري على الأول و"​تيار المردة​"، على الأقلّ بالدرجة نفسها، في عيون "حزب الله"، الذي تحوّل إلى "ساعي الصلح" بين حلفائه، خصوصاً من فرّقتهم "الكيمياء".

وفي هذا السياق، يمكن تشبيه دخول "حزب الله" على خط العلاقة بين التيار الوطني الحر" و"حركة أمل"، بعلاج الطبيب لحالات "الطوارئ" وإيلائها أولوية على حساب غيرها، انطلاقاً من أنّ ما شهدته المرحلة الأخيرة من مناوشات بين الجانبَيْن، قبل وبعد تسريب فيديو "البلطجي" الشهير، لم يعد جائزاً أن يستمرّ. ولعلّ ما زاد من أهمية "الوساطة" هو من دون شكّ التواصل الضروريّ بين رئيسي الجمهورية والمجلس النيابي، فضلاً عن كون رئيس المجلس هو المفوّض من الحزب إدارة المفاوضات على خط تأليف الحكومة.

ومع أنّ من المبالغة بمكان القول إنّ الحزب نجح في إنهاء الخلافات وذيولها عن بكرة أبيها، على اعتبار أنّ ما تحقّق قد لا يكون أكثر من "هدنة" تبقى قابلة للسقوط في أيّ وقت كما كان يحصل في السابق، علماً أنّ القواعد الشعبية للجانبين لا تزال "مشحونة" بشكلٍ أو بآخر، فإنّ الأكيد أنّ "الوساطة" بدأت تثمر على الأرض، وهو ما تجلى من خلال حلّ أزمة مراسم القناصل التي يدري القاصي والداني أنّها كان يمكن أن تشلّ البلد بشكلٍ كامل لو أنّها أتت في ظروفٍ أخرى.

وأبعد من مرسوم القناصل الفخريين، يرى كثيرون أنّ "حياد" بري وفريقه إزاء الأزمات التي واجهها "التيار" ورئيسه في الآونة الأخيرة يصبّ في خانة "التهدئة" نفسها، سواء على صعيد ​مرسوم التجنيس​ الذي لم يطلق بري على خطه العنان لمعارضته، ولا حتى لمؤازرة "أصدقائه" المعارضين، أو بالنسبةلما يحصل في تأليف الحكومة، حيث يلاحَظ أنّ "عتب" بري لا يزال مصوّباً على رئيس الحكومة المكلف ​سعد الحريري​ حصراً. أكثر من ذلك، فإنّ سكوت بري على "الحملة" التي تعرّض لها "صديقه" رئيس "​الحزب التقدمي الاشتراكي​" النائب السابق ​وليد جنبلاط​ على خلفية وصفه العهد بـ"الفاشل" يحمل من الدلالات ما يحمله على هذا الصعيد.

خلاف مضبوط؟

هي "هدنة" إذاً إن جاز التعبير، استطاع "حزب الله" أن يرسيها بين "التيار الوطني الحر" و"حركة أمل" وجدت ترجمتها على الأرض. لكنّ هذه الهدنة لم تجد، حتى الساعة، أيّ صدى لها، على خط العلاقة بين "التيار الوطني الحر" و"تيار المردة"، بل على العكس من ذلك، يبدو أنّ الخلافات بين التيارين آخذة في التصاعد.

وفي هذا السياق، لا يحتاج المرء إلى الكثير من العناء ليدرك أنّ التيّارين المسيحيّين اللذين كانا حليفين استراتيجيّين قبل أن تفرّقهما طموحات زعيميهما الرئاسية وما أفرزته من مناوشات، باتا يبحثان عن أيّ قواسم مشتركة ليس للبناء عليها، بل لتبديدها وإلغائها، إن استطاعا إلى ذلك سبيلاً، في إشارة إلى أنّ العلاقة بينهما وصلت إلى نقطة اللاعودة. وقد يكون كافياً للدلالة على ذلك الإشارة إلى أنّ "تيار المردة" مثلاً بات يجد نفسه أقرب في الفكر والنهج إلى "​القوات اللبنانية​" منه إلى "التيار"، ولذلك أهميته، لكون "القوات" ليست مجرّد خصمٍ عاديّ بالنسبة لـ"المردة"، بل خصم تاريخيّ ودمويّ، في أدبيّاتهم على الأقلّ.

وإذا كان قياديو "المردة" يتحدّثون بشيءٍ من المرارة عن طريقة تعاطي "التيار" معهم ومع غيرهم، على اعتبار أنّه استسهل في الانتخابات الأخيرة شبك يده بيد جميع من خاصمهم، بمن فيهم "​الجماعة الإسلامية​"، لكنه لم يستطع التحالف مع أحدٍ على الساحة المسيحية، فإنّ "التيار" يقول في المقابل إنّ "المردة" هم الذين لم يتركوا للصلح مكاناً، لدرجة أنّه بات يشعر أنهم ينتظرون عند كل استحقاق موقف "التيار" ليقفوا الموقف النقيض منه، وهو ما يتجسّد مثلاً في الموقف من أزمة النازحين، رغم أنّ المنطق يفترض أنّ المعاناة واحدة، والمقاربة كذلك، فإذا ببعض قيادييهم يرفعون لواء عدم الصدام مع المجتمع الدولي.

رغم كلّ هذه المؤشرات السلبية، فإنّ وساطة "حزب الله" بينهما تبدو مؤجلة. يقول العارفون إنّ المسألة لا تعني أنّ الحزب نفض يده بالمُطلق، بيد أنّه ينظر إلى الخلاف بينهما على أنه يبقى مضبوطاً، طالما لم يخرق سقف التفاهم الاستراتيجي الكبير. وبالتالي، فإنّ الحزب لا يعتبر أن الخلاف يستدعي "حالة طوارئ" كما حصل على خط العلاقة بين عون وبري، لأنّ تداعياته تبقى محصورة حتى إشعارٍ آخر، خصوصاً أنّ قنوات التواصل والتنسيق تبقى مفتوحة، لا سيما في ضوء علاقة "المردة" الأكثر من ممتازة مع بري.

"مايسترو" ولكن

لا يعتقد أكثر المتفائلين أنّ "الهدنة" السارية حالياً بين بري وعون ومن خلفه باسيل ستصمد إلى أبد الآبدين، بل إنّ كلّ التوقعات والتقديرات إنّها تبقى هشّة معرّضة للسقوط عند أول مفترق جدّي، وهو ما أثبتته التجارب السابقة.

ولا يعتقد أكثر المتشائمين أنّ "الطلاق" الحاصل في المقابل بين "التيار الوطني الحر" و"تيار المردة" يمكن أن تكون له تأثيراته السلبية على مواقفهما الاستراتيجية، بما يتخطى الخلافات اليومية المرتبطة بالدهاليز السياسية الداخلية.

وإذا كان "حزب الله" بين هذا وذاك أثبت مرّة أخرى بأنّه لا يزال "المايسترو" القادر على إدارة العلاقات بين حلفائه بالتي هي أحسن متى شعر بالحاجة إلى ذلك، فإنّ نظرة بعيدة المدى تؤكد أنّ "الستاتيكو" لن يستمرّ طويلاً، خصوصاً أنّ كلّ ما هو حاصلٌ حالياً قد يكون "تمهيداً" للمعركة الرئاسية المقبلة، التي سيكون على الحزب وغيره أن يحسم موقفه منها، ولو أنّ الأوان لا يزال مبكراً لمثل هذا الحسم...