لم يأت تحريك عجلات التأليف الحكومي من فراغ. كل شيء يوحي بأن ثمة مؤشرات عملية تقود الى التأليف الحكومي، تحت طائلة أن لبنان مقبل على إنهيار سريع، قد يقود الى طرح تغييرات جوهرية في النظام السياسي، سبق وتمّ التلويح بها، تتخطّى حدود التسويات التي اعتاد عليها لبنان، وكان آخرها ​مؤتمر الدوحة​ في قطر، ثم الاتفاق بين التيارين "الوطني الحر" و"المستقبل" الذي انجب انتخابات رئاسية وتسوية موقتة هشّة، سقطت عند أول مفترق. لكن المشكلة بحسب المطّلعين، أن كل فريق في لبنان الآن يراهن على متغيرات خارجية لصالحه، أو يريد توظيف تلك المتغيرات في حساباته الداخلية.

بات واضحا أن الخلاف الأساسي الذي يمنع التأليف الحكومي هو داخلي، لكن رهانات القوى تستورد المعطيات الخارجيّة لترجمتها في مكاسب داخليّة حكوميّة الآن، ورئاسية لاحقاً.

مجرد طرح اعادة الانتخابات النيابية، في كواليس وصالونات سياسية ضيّقة محصورة، هو أول ضرب للنظام السياسي، سيستتبعه حديث عن وجوب اعادة النظر في الصلاحيات الدستوريّة، كأن تكون المدة الممنوحة لرئيس الحكومة المكلّف محدودة بأطر زمنية تطيح بالوقت المفتوح الممنوح له دستورياً بعد ​اتفاق الطائف​. هذا ما إعتبره رؤساء الحكومات السابقون طعناً بالدستور، واستهدافاً لحقوق الطائفة السنّية ومكتسباتها، ولذلك جاء الاستنفار في الكواليس السياسيّة السنّية لمنع طرح هذا العنوان بأي شكل من الأشكال، وإصطفّ الموالون والمعارضون لرئيس الحكومة المكلّف ​سعد الحريري​ خلفه رفضاً "لطعن الطائف".

لذلك، فإن الطرح بتجديد النظام السياسي، سيجرّ معه طروحات تغييرية، قد تصل الى حدود فرض الغاء الطائفيّة السياسيّة ايضاً، كما نصّ الدستور ايضاً. بإعتبار أن المشاريع الطائفيّة التي كانت تسود في المنطقة سقطت، من سوريا الى العراق. وبحسب المطّلعين فإن عواصم القرار باتت على ثقة بأن ترميم النظم هو الحل، لمنع سقوطها ورمي المنطقة في المجهول. لذلك تصرّ الولايات المتحدة الأميركية على التكرار بأن غايتها في ايران "تغيير السلوك لا ضرب النظام". الأميركيون أنفسهم سبق وأن رفضوا تكرار تجارب انهيار الانظمة، وحموا الاردن، وتباهوا بحماية دول خليجيّة، مقرونة بالإبتزاز المالي.

ومن هنا ايضا، جاء تدخل الروس في سوريا لمنع سقوط دمشق. وعندما فشلت المجموعات المسلّحة في تغيير النظام السوري، اطلّت ​إسرائيل​ بالأصالة وكررت ضرباتها لسوريا، فرفعت موسكو من درجات المواجهة، وزوّدت السوريين بصواريخ "أس 300".

كل ذلك، يفرض على اللبنانيين منع الرهان، لا على الأميركيين، الذين خففوا من حراكهم في لبنان في المدة الاخيرة، ولم تُسجّل أي محاولات للوساطة أو اجهاض التسويات، أو الطلب، او التمني. غاب الأميركيون عملياً عن التدخل في امر لبنان، الى درجة ان الرئيس الاميركي ​دونالد ترامب​ تجاهله كلياً في كلمته في الأمم المتحدة، ففهم كل فريق سياسي داخلي ذاك الغياب الأميركي المقصود بحسب رؤيته ومعطياته: هل هو لإبقاء الجمود قائما من دون حث حلفاء واشنطن على تسهيل التأليف الحكومي؟ أم ان واشنطن لم يعد يعنيها لبنان بعدما فرض الروس شروطهم في سوريا، الامر الذي ينعكس حكماً على الداخل اللبناني؟ .

بجميع الأحوال، حققت صواريخ "أس 300" معادلة توازن القوى في المنطقة. وهو امر يمنع أي رهان لبناني على قطع أذرعة دمشق في سوريا. بعدها كرّت سبحة المؤشرات العربيّة: اولاً، الاردن طالب بإعادة سوريا الى حضن الجامعة العربيّة، وبدء النقاش والرغبة بفتح ​معبر نصيب​ الحدودي بين المملكة الهاشمية والجمهورية العربية السورية.

ثانياً، بدت الكويت اكثر الدول الخليجيّة انفتاحا على السوريين، لتفتح الطريق امام عواصم اخرى.

ثالثاً: تشكلت الحكومة العراقية، التي تعتبر مقياساً ايضاً لتوازنات المنطقة.

فهل يفهم اللبنانيون ان الوقت بات يفرض اللحاق بمتغيّرات إيجابيّة خارجيّة، وعدم الرهان على كسر اي فريق للآخر؟ خصوصا ان عواصم عدّة تبدي حسرتها على بقاء الجمود اللبناني من دون حكومة، الى حدّ التلويح بنسف نتائج مؤتمر "سيدر".

آن أوان اللبنانيين كي يتيقنوا أن مجرد تزويد سوريا بدفاعات عسكرية هائلة ومن بينها "أس 300" يعني أن توازن الرعب سيبقى قائما في المنطقة، لمصلحة حلف فرض نفسه، عماده الروس، وأن الكلام الأميركي الذي ابلغه وفد واشنطن في آخر زيارة الى معراب، بأن لا تراجع اميركي في سوريا، ولا عودة لدمشق الى مجدها، هو مجرد سراب، لأن أولويات الأميركيين هي التسويات حول النفوذ والنفط والغاز وضمان أمن اسرائيل لا غير.