يتلذّذ السياسيّون منذ فترة غير قصيرة في ان يتسلّوا بال​لبنان​يين عبر تذليل عقبة ما امام ​تشكيل الحكومة​ لتظهر بعدها عقبة مستجدّة تعيد الامور الى المربّع الاول. يتحدّث الجميع عن عدم تمتّعنا برفاهيّة الوقت للتلهي بالمماحكات والمواقف الفارغة التي لا تقدّم ولا تؤخّر، انما ما يحصل عملياً هو العكس تماماً. وبات من المسلّم به ان كل ما قيل ويقال عن انحصار المشكلة في الداخل، هو كلام استهلاكي رخيص، وان الحقيقة هي ان العقدة اكبر من اللاعبين الثانويين اللبنانيين. ولكن، من باب الانصاف، لا بد ان نشيد بالاختصاص الفريد من نوعه في العالم بالنسبة الى سياسيي لبنان، وهو "فن التعقيد". فهذا الاختصاص يجهد السياسيون في لبنان في تلقّفه، ويحرصون على التخرج من كلّيته بدرجة "امتياز"، حتى انهم باتوا "اساتذة" في خلق التعقيدات التي لا يقوى على التفكير بها افضل مخرجي هوليوود في اكثر افلاهم تعقيداً.

ولمزيد من التقدير، لا بد من الاشارة الى ان الجامعة التي يتخرّج منها سياسيو هي لبنان، هي جامعة "الطائفية" التي لا مثيل لها في العالم، فهي في بلد متعدّد الطوائف وتتبجّح كل طائفة بانفتاحها وتقبّلها للطائفة الاخرى ورعايتها، فيما الواقع المرير يشير الى ان أيّ "هفوة" او "دعسة ناقصة" في أيّ مجال او استحقاق، كفيل باشتعال آتون الطائفيّة ببرهة من الزمن.

هذا ما يمكن تطبيقه على الواقع الحكومي اليوم مثلاً، فبدل الاحتكام الى ​الدستور​ والقوانين، رغم عدم قبول الكثيرين بها، يتسلّل السياسيّون عبر نافذة "الطائفية" للحديث عن "الميثاقيّة" التي بالفعل تحمي لبنان حيناً ولكنها تجمّده احياناً، ويتمّ التركيز على أنّ المناصب الرسميّة هي التي تحمي الطائفة، غير أنّ الحقيقة هي أنّ هذه المناصب نفسها هي لـ"اسكات" او "ارضاء" الطائفة دون أيّ فاعلية حقيقية، لان ما لا توافق عليه طائفة معيّنة لا يمكن ان يمرّ لفترات من الوقت تطول وتقصر وفق قدرة هذه الطائفة على التجييش الشعبي.

وفي غضون ذلك، يحاول البعض عن نيّة طيبة، او عن نوايا خبيثة، ايهام الشعب بأن دوره اساسي، ويمكنه التعلّم من احداث جرت في العالم للحصول على حقوقه... والمثل الاقرب الينا اليوم، والذي يتم من خلاله محاولة اقناع اللبنانيين بالتحرك الميداني، هو "السترات الصفراء" التي قلبت الامور في ​فرنسا​. ولكن اللبناني ليس مثل أيّ شعب في العالم، ولبنان ليس بالطبع فرنسا، إذ يمكن من البداية نسيان كل الامور الحياتية والاساسية والظلم و​الفقر​ و​الفساد​ والجهل، والتركيز على أمور ثانوية كفيلة باطاحة اي جهد حقيقي لتوحيد اللبنانيين. ويمكن على سبيل المثال، الاعتراض على لون السترات مثلاً، فلماذا الاصفر وليس البرتقالي او الازرق او الاخضر او الاحمر...(فالالوان في لبنان لها احزابها ودلالاتها)، ولماذا سيدعو هذا التيار او الحزب او الشخص الى التظاهرة وليس غيره، ويبدأ السؤال البديهي عن الذي يقف وراء الجهة الداعية والسبب الحقيقي وراء الدعوة، لأنّه في مفهوم السياسيين وللاسف اللبنانيين، ليس هناك ما يدعو للنزول الى الشارع سوى الزعيم او المسؤول السياسي الذي يؤيده المتظاهرون. وقد يعتبر الكثيرون الأمر استفزازاً لهم ولطائفتهم وزعيمهم، فيكون الرد بتظاهرة مضادة تنزل في الوقت نفسه والمكان نفسه فتشتعل شرارة الخلافات والمواجهات وتخرج الامور عن مسارها، فتضيع الاهداف وتغرق في بحر الطائفيّة الذي يريده الكثيرون ان يكون "تسونامي" يغرق الجميع في امواجه.

وبما ان الغطاء الامني والعسكري الدولي لا يزال صالحاً ولم تنتهِ مدته بعد، فلا يمكن لاحد ان يحلم بتدهور الاوضاع الامنية، الّتي لن تشهد اكثر من محاولات متواضعة لخلق "هزة امنية" طفيفة لن يشعر بها الا من كان في محيطها، وسيكون الجيش و​القوى الامنية​ اكثر من مستعدين للتدخل ووضع حدّ لأيّ مغامرة غير محسوبة النتائج في هذا المجال.

وبدل أن يتمتّع اللبنانيّون بهدية ​عيد الميلاد​ الرسميّة التي ينتظروها من السياسيين وهي تشكيل الحكومة، سيكتفون بهدية "التعقيد" و"الخداع" التي سيتلقّونها كل سنة، فشكراً على هذه "العيديّة" وقدّر الله اللبنانيين على ردّها الى السياسيين في اقرب وقت ممكن.