تُطِلُّ علينا بين الفَينَةِ والفَينَة، مَرجعيّاتٌ خارجةٌ عن شريعة الإلفة والمودّة التي يفترضها الدّين والتديُّن، لِتُسَطِّر في التّاريخ مواقفَ جارِحة، نافِرَة ومُنَفِّرة، تُشَوِّشُ أجواء الفرح وتزرع البلبلة والتفرقة، ما يُشَكِّلُ طعنَةً عميقةً في خاصِرة الأُخوّة والإنسانيّة التي تُقَرِّبُ البشر من البشر، على اختلاف مشاربهم ومآربهم وانتماءاتهم العرقيّة والدينيّة والقوميّة وغيرها. إنّها "فَتاوى مُتَفَلِّتة" كما أطلقت عليها قِمّة مَكّة، تصدُرُ عن مرجعيّاتٍ غريبَةٍ عن خطّ ​الإسلام​ الحنيف، تُثَقِّلُ على النّاس، كلّ الناس، وتبتليهم بالمآسي، وتُلَبِّدُ أجواء خَلقِ الله، وآخِرُ فصولِها أقوالٌ بعدم جواز تهنئة المسيحيين في أعيادهم؛ فمَن هنَّأَ مسيحياً، اعتقدَ بمعتقده وأشرَكَ وضلَّ، وسوءُ صَنيعه، يوازي سُوء شُربّ الخَمر وارتكاب الفاحشة!.

أن نُهنىء بعضنا البعض في أعيادنا، لا يَعني بالضّرورة أن نؤمن إيماناً واحِداً، ولكن أن نَفرح لِفرح بعضنا البعض، على ما تفترضه أبسط قواعد الإنسانية والمودّة والإحترام التي تجمع البشر مع البشر وتُقَرِّبُهم من بعضهم البعض، كائناً مَن كانوا، ومَهما كان اعتقادهم. فأنا الإنسان، أُهنّىءُ إخوتي لأنّهم فَرِحون بما يعتقدون به أنّه مُقدّسٌ وجديرٌ بالإكرام والإجلال والإحترام. هذا هو مَعنى الأُخوّة؛ أن ننضمَّ جميعنا إلى مساحة الفرح المُشتركة التي تستوعب الجميع، من دون أن يكون هناك أيّة أبواب مُقفَلة، ولا عراقيل تأتي من هُنا وهناك، وتفرض ذاتها بالإستناد إلى قاعِدةٍ دينيّة أو عقيديّة؛ فما هو دينيّ لا يُفهم ولا قيمة له إلا في واجب المحبّة التي تُقرّب وتَجمع، وكلّ ما هو عكس ذلِك قابلٌ للنقد والرّفض.

فأنا المسيحيّ اللبنانيّ مُصِرٌّ على تهنئةِ إخوتي المُسلمين، كلّ المُسلمين، بأعيادِهِم، أينما كانوا وإلى أي بَلَدٍ انتموا: بعيد المَولِد النبويّ الشّريف، والسّنة الهجرية، والأضحى و​عاشوراء​ و​شهر رمضان​ والفطر السّعيد وغيرها من الأعياد الجَلَل. وإخوتي المُسلمين أيضاً مُصِرّون على أنّ يفعلوا الأمرَ ذاته معي، فيهنّؤني بأعيادي المسيحيّة: ب​عيد الميلاد​ والقيامة والبشارة وغيرها. ننضمُّ كلّنا إلى بعضنا البعض مُقَدِّرين ما عندنا من غِنىً وتمايُز، فنَجلس كُلُّنا معاً على مائدة المحبّة لنقتاتَ منها فَرَحاً وسلاماً وتحابّاً وتضامُناً وسعياً إلى الخير. هذا ما تقتضيه الأخوّة التي هي والإيمان قَرينَتان لا يُمكن أن ينفكّا من دون أن تتضرَّر الإلفة، نعم، "الْأُلْفَةَ (التي هي) ثَمَرَةُ حُسْنِ الْخُلُقِ (بينما) وَالتَّفَرُّقَ ثَمَرَةُ سُوءِ الْخُلُقِ، فَحُسْنُ الْخُلُقِ يُوجِبُ التَّحَابَّ وَالتَّآلُفَ وَالتَّوَافُقَ، وَسُوءُ الْخُلُقِ يثمر التَباغُض والتَحاسُد والتَدابر، ومهما كان المُثمِر مَحموداً كانت الثَّمَرَةُ مَحمُودَة"، على ما قاله ابن الجوزي في" مِنهاج القاصدين ومُفيد الصّادقين". أفَلَم يقُل السيّد المسيح:"من ثِمارِهم تعرفونَهم"؟(متى7: 16).

إنَّ فَتاوى مُحَرِّمَة لِتَلاقي الإنسان مع أخيه الإنسان، هي فَتاوى مُحَرَّمَة، لأنّها لا تُراعي أُصول الدّين ولا التديُّن الصّادق الذي يفترض حُكماً لِقاء الإنسان بأخيه الإنسان. فإلى تلك القِلَة القليلة أقول: إنزعوا خِطاب البلبَلَة هذا من أفواهِكم، وطيّبوها بكلمات التلاقي، واعتمروا عِمامة الملائكة الذين يأتَمرون بأمر الله ويخدمون إرادته في الأرض، واسمحوا للبشرية بأن تلتقي على قاعدة الإنسانيّة التي تجعل الجميع إخوة، واستعملوا المنابر للهدايَةِ والتسامح والدّعوة بالحُسنى، والله على ما تفعلونه شاهِدٌ ومُثيب.