منذ ما قبل ​الانتخابات النيابية​ الأخيرة، رفع "​حزب الله​" شعار ​مكافحة الفساد​، معلناً الانخراط في معركتها، ما شكّل نقطة مفصليّة برأي كثيرين في تاريخ الحزب، الذي لطالما نأى بنفسه عن شؤون ​السياسة​ الداخلية، بل اعتبرها مجرّد غطاء لا بدّ منه لعمله العسكريّ، الذي يشكّل أولويته من دون منازع.

يومها، قيل الكثير عن خطوة الحزب. ثمّة من وضعها في إطار الوعود الانتخابية، التي اعتاد ال​لبنان​يون أن تبقى حبراً على ورق، وثمّة من توقّع سلفاً ألاّ يمضي الحزب في خطته، إن وُجِدت، بسبب وجود الكثير من المحاذير السياسية والقانونية وحتى المذهبية ربطاً بالتركيبة اللبنانية الطائفية الحسّاسة، فضلاً عن علاقته ببعض حلفائه.

وجاء إعلان الأمين العام للحزب ​السيد حسن نصر الله​ أخيراً، عن ضرورة إقرار قوانين أولاً، ليخفّف الاندفاعة بشكلٍ أو بآخر، إلى أن أطلق الحزب "معركته الأولى"، معركة قرأ البعض من عنوانها مضموناً لم يستسغه، خصوصاً أنّه أوحى أنّ الحزب أطلق، من باب ​محاربة الفساد​، مواجهة جديدة مع "​تيار المستقبل​" لم يُعرَف الدافع والمغزى من ورائها، ولا الهدف الذي يمكن أن تصبو إليه.

معركة ضدّ "أشباح"؟!

مع إطلاق "حزب الله" معركته ضدّ الفساد، من خلال استنهاض قضيّة الـ11 مليار الشهيرة، كانت الاتهامات جاهزة بأنّ المعركة مسيّسة، وأنّ المستهدَف منها ليس سوى رئيس ​الحكومة​ الأسبق ​فؤاد السنيورة​، باعتبار أنّ هناك "حساباً" يريد "تصفيته" معه، ومن خلفه "تيار المستقبل" بطبيعة الحال.

وإذا كان صحيحاً أنّه كان بإمكان الحزب إثبات حسن النوايا باختيار "هدفٍ" آخر لإطلاق معركته ضدّ الفساد، حتى لا تنبعث منها الروائح السياسيّة الواضحة، فإنّ المحسوبين عليه يصرّون على أنّ مثل هذا التحليل غير دقيق، وأنّ الخطوات التي أقدم عليها الحزب أخيراً، ليست سوى باكورة عمله في مكافحة الفساد، وهو يستغرب الحملات التي يُجابَه بها، في وقتٍ رحّب الجميع بإعلانه الانخراط في هذه المعركة، إلا إذا كان الاعتقاد سائداً بأنّ المعركة ستكون ضدّ "أشباح".

وأكثر من ذلك، يحرص الحزب على الإشارة إلى أنّه في كلّ خطواته حتى اليوم، لم يقم بتسمية أحد بشكلٍ مباشر، بل إنّ الآخرين الذين ينتقدونه اليوم هم من كانوا يلومونه على الاكتفاء بالحديث المتكرّر عن الوقائع والفضائح، من دون أن يسمّي أحداً بالاسم، وخير دليلٍ على ذلك الحملة التي شُنّت على عضو كتلة "الوفاء للمقاومة" النائب حسن فضل الله بعد مداخلته في ​مجلس النواب​، والتي اعتُبِرت نسخة مكرّرة عن مداخلة سابقة له.

إلا أنّ المفاجأة كانت بأنّ "الحملة" اتّسعت أكثر، عندما قرّر الحزب الاحتكام إلى ​القضاء​، وهو ما لا يجب أن يمتعض منه أحد، في "دولة القانون والمؤسسات"، علماً أنّ العارفين بأدبيّات الحزب يصرّون على نفي فرضيّة أن يكون بوارد استهداف فريق معيّن انطلاقاً من الخصومة السياسيّة معه، ويشيرون إلى أنّه سبق أن أبلغ عدداً من الحلفاء والأصدقاء، وفي مقدّمهم "​التيار الوطني الحر​" و"​حركة أمل​" بخطّته الشاملة، والجاهزة لمكافحة الفساد، والتي نالت استحسانهم وموافقتهم.

ويشدّد الحزب على أنّ الجميع سيكونون مشمولين بهذه الخطّة، داخل الحزب نفسه قبل خارجه، بل ثمّة من يعتبر أنّ الإجراءات التي اتُخِذت أخيراً ضدّ النائب ​نواف الموسوي​ تندرج في توجيه رسائل "طمأنة"، خصوصاً أنّ كثيرين اعتبروها مضخّمة، كما أنّ مداخلات الموسوي في مجلس النواب لم تشكّل "سابقة"، ولعلّ تاريخ مجلس النواب يزخر بالكثير من المواقف "غير اللطيفة" التي صدرت عن بعض نواب الحزب في مواجهة زملاء لهم، من دون أن يُتَّخَذ أيّ إجراء بحق أيّ منهم سابقاً.

انتكاسة للحكومة؟!

بمُعزَل عن الشكل الذي يمكن أن تتخذه المواجهة بين "حزب الله" و"تيار المستقبل"، والتي بدأت "بشائرها" تظهر من خلال الحروب الإعلاميّة والافتراضيّة بين الجانبين، يتحدّث البعض عن هواجس لدى الحزب، قد تكون دفعته إلى سلوك هذا المسار، ربطاً بتفاهمات ثنائية قد تكون سبقت ​تشكيل الحكومة​، خصوصاً بين "تيار المستقبل" و"التيار الوطني الحر" على حسابه، في وقتٍ تصوَّب الكثير من السهام عليه ويتعرض للعديد من الضغوط، والتي كان آخرها إعلان ​بريطانيا​ حظره بالكامل، في خطوةٍ يخشى أن يكون لها تداعيات، ولو اعتبرها شكليّة في الأساس، خصوصاً أنّه لا يمكن عزلها عن الحملة الدوليّة التي تُشَنّ عليه، في أعقاب العقوبات الأميركيّة التي تمّ فرضها عليه.

وفي حين يتوقّع "حزب الله" أن يكون "التيار الوطني الحر" إلى جانبه في معركته، باعتبار أنّه سبق أن خاض مثلها، في مرحلة ما عُرِف بـ"​الإبراء المستحيل​"، وإن طُويت بعد التسوية الرئاسيّة التي أفضت إلى تبنّي "المستقبل" ترشيح مؤسس "التيار" العماد ​ميشال عون​ إلى رئاسة الجمهوريّة، يتريّث الأخير في اتخاذ موقف واضح، بل يوحي في مكانٍ ما بـ"الحياد" في مقاربته، على رغم ميل جهاتٍ واسعة داخله إلى الفصل بين السنيورة ورئيس الحكومة ​سعد الحريري​، ما يعني أنّ التمسّك بالتسوية المبرمة مع الأخير، لا تعني بأيّ شكلٍ من الأشكال حماية السنيورة من "الارتكابات" إذا ما تمّ إثباتها.

ولعلّ موقف "التيار" هذا يرتبط بشكلٍ مباشرٍ بوجود خشية جدية من أن تكون الحملة على السنيورة بمثابة ضربة أو حتى انتكاسة للحكومة في أيامها الأولى، لأنّ تداعياتها لن تقتصر على العلاقة بين "حزب الله" و"تيار المستقبل"، التي كانت شهدت بعض التحسّن في الآونة الأخيرة، بل إنّها تضرب بشكلٍ أو بآخر التضامن الوزاري المفترض، ومن مكانٍ لم يكن أحد يتوقّعه، ما يمكن أن يقضي على أيّ "أمل" بقدرة الحكومة على تحقيق ما وعدت به من إنجازات وإصلاحات تصبّ في الصالح العام.

هل يجرؤ؟

بالنسبة إلى "تيار المستقبل"، لا نقاش في أنّ المعركة ضدّ السنيورة مسيّسة، بدليل أنّها ليست الأولى من نوعها، وسبق أن خيضت في وجهه حملة "الإبراء المستحيل" الشهيرة في عزّ الخلاف مع "التيار الوطني الحر"، من دون أن تفضي إلى أيّ نتيجة.

وإذا كان صحيحاً أنّ السنيورة لا يتمتّع اليوم بالحصانة النيابيّة كما في السابق، وأنّه لم يعد يحظى بالمكانة السابقة نفسها داخل "تيار المستقبل"، بعد حملة "التطهير" التي قام بهاالحريري، فإنّ كلّ المعطيات تؤكد أنّ الأخير ليس في وارد التخلي عنه، بل إنّه يعتبر أنّ الحملة عليه هي بمثابة "استهداف مباشر" له ولوالده رئيس الحكومة الأسبق ​رفيق الحريري​.

وأبعد من ذلك، يقول البعض، ممّن يعتبرون حملة "الحزب" سياسيّة بالدرجة الأولى، إنّ الحزب يدرك بطبيعة الحال أنّ السنيورة ليس المتهم الوحيد بالتورط في الفساد في لبنان، لكن هل سيجرؤ على مواجهة الآخرين، ومن بينهم بعض حلفائه، الذي سبق أن أحاطهم بخطوط حمراء ثقيلة؟!.