مِن أين تَدفَّق علينا هذا المقدار من "الحبّ" الدولي في هذه اللحظة؟ لا نعرف. ولماذا تهافت علينا الموفدون من الشرق والغرب، يسألون خاطِرَنا ويَعرضون المساعدة، بالمال والاستثمارات والمشاريع، في مجالات ​النفط​ والطاقة و​الاتصالات​ و​البنى التحتية​ وغيرها، وبالعتاد للجيش، وبإخراجنا من مأزق النازحين؟ حتى اليوم لا نعرف.

وهل الأهداف المعلنة لهذا "الهجوم الإيجابي" على ​لبنان​ هي الحقيقية، أم هناك أهداف مبيَّتة ستظهر لاحقاً؟ وهل ستكون لمصلحة بلدنا أم ستُفاقِم أزماتنا فتتدهور من السيئ إلى الأسوأ؟

***

جاء ديفيد هايل إلى لبنان في مَهمَّة بدت عاجلة. وبعده جاء ​ديفيد ساترفيلد​ في جولة قيل عنها الكثير، واستثنت ​رئيس الجمهورية​ العماد ​ميشال عون​ بسبب انعدام الكيمياء بين الرجلين، وفق ما تردَّد، إضافة إلى التباين في ملفات عدّة. وبعد أيام، سيأتي وزير الخارجية ​مايك بومبيو​، ويلتقي الجميع بمن فيهم الرئيس. وعندما يتحرَّك الأميركيون يحسب الجميع لهم ألف حساب.

ماذا يريد الأميركيون من لبنان في هذه المرحلة؟

يريد الأميركيون أن يتجاوب لبنان معهم في ملف النزاع الحدودي مع ​إسرائيل​ والانطلاق في استثمار ​الغاز​ والنفط من المنطقة البحرية المتنازع عليها، وأن تكون لهم لا ل​روسيا​ أو سواها رعاية هذا الملف. ويريدون أَلّا ينجرف لبنان في ركاب المحور الروسي.

طبعاً، لا يستطيع لبنان أن "يُزعِّل" الأميركيين بأي حال. فسلاح ​الجيش اللبناني​ أميركي بالدرجة الأولى، وتغطية ​القطاع المصرفي​ اللبناني أميركيةٌ أيضاً، وحماية لبنان من مغامرات إسرائيل و​الإرهاب​ أيضاً، وجزء كبير من استقرارنا السياسي والأمني والمالي يعود إلى التغطية الأميركية.

فهل يستطيع لبنان أن يقول "لا" للولايات المتحدة ويغامر بكل هذا الدعم؟ ومَن يستطيع انتشال لبنان إذا سحب الأميركيون يدهم منه وتركوه يسقط؟ بالتأكيد، لا أحد. وكل المسؤولين والقوى السياسية يدركون ذلك، بمن فيهم المصنَّفون خصوماً ل​واشنطن​.

***

في المقابل، هناك هجمةٌ روسية متنامية في ​الشرق الأوسط​ تُذكِّر بالهجمة السوفياتية زمن ​الحرب الباردة​. وبعدما كرَّست ​موسكو​ نفوذها في ​سوريا​، بالتفاهم مع إسرائيل والقوى الإقليمية الأخرى، تحاول توسيع هذا النفوذ على كامل البقعة الإقليمية. ولبنان هدفٌ أساسي في هذا التوسُّع.

يريد الروس أن يكون لبنان موطئ قَدَمٍ لهم. فهناك اتفاق عسكري مجمَّد منذ العام الماضي، يقضي بتزويد الجيش اللبناني أسلحةً وعتاداً بقيمة مليار دولار. ويعرض الروس على لبنان تسديد المبلغ بـ"التقسيط المريح": 15 عاماً بلا فائدة. وعندما كان يتولّى الوزير الياس المرّ ​وزارة الدفاع​، عرض الروس تقديم دعم فاعل لسلاح الجوّ اللبناني.

لكن الطموح الروسي يصطدم بمعارضة أميركية. ويسأل الأميركيون لبنان: لماذا تشترون ​السلاح الروسي​ فيما نحن ندعمكم بالسلاح مجاناً منذ سنوات؟ وبماذا ستنفعكم قِطَع الغيار الروسية ما دام معظم عتادِكم أميركي الصنع؟

ويريد الروس أن ينفتح ​المصرف المركزي​ اللبناني على مصرفهم المركزي، وأن تتعاون ​المصارف اللبنانية​ مع ​المصارف الروسية​. لكن لبنان لا يجرؤ على اتخاذ هذه الخطوة لأن التعاملات المالية ب​الدولار​ تمرّ حتماً بواشنطن التي تفرض عقوبات على روسيا.

ويريد الروس أن يكون لبنان جسراً لهم في إعادة إعمار سوريا. ويطمحون إلى الاستثمار في قطاعي النفط و​الكهرباء​ وسواهما. وهذا الأمر تجاوب معه اللبنانيون من خلال التلزيمات الأخيرة وإشراكهم أكثر في المناقصة المنتظرة قريباً في قطاع النفط.

كل ذلك يطرحه الروس على لبنان مقابل تقديم الدعم له، ولكي يبذلوا الضغوط اللازمة لتحريك مبادرتهم وحلّ أزمة النازحين. وهنا بيت القصيد. فهل يملك لبنان جرأة التقارب مع روسيا متحدّياً إرادة الأميركيين؟

***

كل ذلك، فيما نحن غارقون في صراعنا الداخلي حول المحاور الإقليمية: يشترط الخليجيون أن ينأى لبنان بنفسه ليستعيدوا المبادرة في اتجاهه. وهناك مؤشرات إلى حركةٍ سياحية واستثمارية خليجية واعدةٍ في لبنان، إذا التزم هذه الضوابط.

وفي المقابل، تتبنّى بعض الفئات اللبنانية منطق التحالف مع ​إيران​ على رغم ​العقوبات الأميركية​، وهي لا ترى مانعاً من الحصول على سلاح للجيش، وعلى ​الأدوية​ والكهرباء، من إيران.

***

وفي خضم ذلك كلّه، تأتينا ​فرنسا​ "الأم الحنون" لتقول للمسؤولين: أنتم فاسدون وغير جديرين بالثقة. ولا أموالَ ستحصلون عليها ما دمتم كذلك. ونعطيكم مهلة قصيرة لتُثْبِتوا أنكم اصطلحتم. وفي أي حال، نحن بأنفسنا سنتولّى إدارة ​القروض​ الممنوحة في مؤتمر "سيدر".

يقول الموفد الفرنسي ​بيار دوكان​ هذه الكلمة ويمشي… لكن طبقة السياسيين ودّعته بمزيد من الإنفاق و​الفساد​. ولا نعرف ماذا سيقول المسؤولون للرجل عند عودته إلى ​بيروت​ قريباً!

***

إذاً، لبنان واقع في مأزق حقيقي. هذا يَشدُّه في هذا الاتجاه وذاك في اتجاه آخر، فيما إدارته السياسية مشبوهة بالفساد ولا تحظى بأي ثقة دولية. وهكذا، بين الأميركيين والروس، وبين العرب و​طهران​ ودمشق، نحن ضائعون، والفرنسيون "يُتَكْتِكون" بمؤتمر "سيدر" وأموالِه المفترضة… وهي أساساً مجرَّدُ ديونٍ إضافية على لبنان!

بين كل هؤلاء، نخشى أن نتمزّق في صراعات الشرق والغرب، ولا نحصل على شيء: لا مساعدات ولا تغطية دولية ولا عودة نازحين ولا مَن يَحزَنون…

سينطبق علينا المثَل القائل: "لا مع سِتّي بخير ولا مع سيدي بخير". والحقّ ليس على الدول. فالدول تعمل وفق مصالحها. بل الحقّ علينا نحن اللبنانيين الذين شرعنا أبوابَنا ونوافذنا للجميع وجعلنا بلدنا ساحة صراع وصندوق بريد للرسائل. والخوف هو أن نخرج من هذه الجولة بمزيد من الخسائر، وعلى كل المستويات.