كثيرة هي محطات التاريخ التي لم تنصف القادة العظماء في حياتهم، لكن ومع الأزمات المتلاحقة ومرور الوقت نكتشف عظمة هؤلاء، خصوصاً القادة العظماء الزاهدين بالمكاسب الشخصية، المؤمنين بالانتماء للأرض والوطن، الساعين إلى تمسّك وتجذّر الإنسان بوطنه. أولئك هم أصحاب الرؤية الإستراتيجية الحامية للوطن.

الزعيم العربي ​جمال عبد الناصر​ رفع شعاراً إستراتيجياً، بالنظر إلى رؤيته البعيدة التي أثبتت صحتها في المواجهة مع العدو الإسرائيلي حين قال: «إن ما أُخذ بالقوة لا يُستردّ بغير القوة».

الرئيس العربي ​حافظ الأسد​ كان صاحب رؤية إستراتيجية ثاقبة، انطلاقاً من علمه وشغفه بالتاريخ، وبممارسات أميركا تجاه العرب، حين قال: «إنه لا توجد سياسة أميركية بالمنطقة، بل هناك سياسة إسرائيلية في منطقتنا تنفذها أميركا».

القادة العظماء لا ينطقون عن الهوى، لأنهم خبروا التاريخ ودرسوا تفاصيله ومحطاته وتجاربه، وأخذوا العبرة من أحداثه، ولذلك يطلق عليهم «القادة العظماء».

وبالمقارنة بين زعماء الأمس العظماء، وبين ملوك وأمراء ورؤساء اليوم، نكتشف أننا ما نزال نحتفظ من إرث العظماء رئيساً عربياً واحداً جمع بين قومية وإيمان جمال عبد الناصر باسترداد فلسطين، وبين عروبة وصلابة وصمود وإستراتيجية حافظ الأسد. هذا الرئيس هو رئيس الجمهورية العربية السورية بشار الأسد الذي صمد وهزم المؤامرة الكونية على سورية، الأمر الذي دفع أعداء سورية للاعتراف بعجزهم وبفشل مؤامراتهم المستمرة منذ ثماني سنوات.

لقد استنفذت جعب المتآمرين عسكرياً في سورية، من عرب وغرب وأميركيين وصهاينة، ولم يبق في جعبتهم إلا محاولة الحصار الاقتصادي، وتزوير التاريخ والجغرافيا لبلد عابق بالتاريخ والحضارات والثقافات اسمه سورية.

بالأمس غرّد رئيس الولايات المتحدة الأميركية دونالد ترامب بـ«ضرورة الاعتراف» بـ«سيادة إسرائيل» على هضبة الجولان المحتل منذ أكثر من 52 عاماً، وباعتراف وإقرار الأمم المتحدة بموجب القرار الأممي رقم 242.

ترامب الذي لا يفقه إلا لغة حلبات المراهنات وصالات المقامرة، لم يُعِر القانون الدولي ومقررات الأمم المتحدة أي اهتمام، وهو من نصّب نفسه وصياً على الأمم المتحدة وعلى أرض وحقوق بلادنا العربية، ليقوم بتوزيعها على الصهاينة أعداء الأمة العربية.

إن تغريدة ترامب لا قيمة لها ودون وزن وبلا مفعول، ولن تُصرف إلا بقانون الجهلاء الأغبياء، فالجولان عربي الهوية سوري الانتماء وجزء لا يتجزأ من الجمهورية العربية السورية، ولن نقول رغماً عن أنف المعتدين المحتلين، بل إننا نقول هذا انطلاقاً من إيماننا المطلق بتاريخ سورية وشعبها وجيشها العربي، وانطلاقاً من دروس التاريخ والجغرافيا التي لا يتقن فهمها ترامب ولا حتى الصهاينة المحتلون.

البعض يقول إن تغريدة ترامب جاءت قبيل الانتخابات الإسرائيلية لتشكل دعماً لرئيس وزراء كيان العدو بنيامين نتنياهو للفوز بفترة حكم جديدة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن ترامب يريد إظهار ولائه لإسرائيل طمعاً بأصوات اليهود في أميركا، من أجل الفوز بفترة رئاسية جديدة في البيت الأبيض.

أما نحن فنقول إن مصير شعبنا وأرضنا وأوطاننا ليست بازاراً انتخابياً يمكن صرفه لمصلحة هذا أو ذاك، فسورية تتقن فن المهادنة، لكنها لا تعرف المساومة على الحقوق الوطنية والعربية مهما طال الزمن.

إن المسببات الرئيسية التي شجعت ترامب على هذه التغريدة السخيفة، هي الرعونة العربية في الدفاع عن القضية الفلسطينية، والمساومة العربية على الحقوق الفلسطينية والعربية.

فمنذ اتفاق كامب ديفيد، مروراً بأوسلو، والمبادرة العربية 2002، وصولاً لاتفاق وادي عربة، جميعها أدت إلى انهيار وانبطاح واستسلام وغياب تام وواضح للموقف العربي، الأمر الذي أحدث هوة عربية سحيقة يصعب ردمها، ما أفسح المجال للعدو الإسرائيلي مدعوماً من أميركا بالمزيد من الغطرسة والتعدي على الحقوق العربية.

ولأن سورية العروبة رفضت المساومة والمفاوضات المنفردة مع العدو الإسرائيلي، وصممت على الصمود وآمنت بالمقاومة كحق مشروع لاسترداد الحقوق، كانت المؤامرة الكونية عليها بهدف تفتيتها وتقسيمها، ونهب ثرواتها، وتشتيت مجتمعها، وتزوير تاريخها، وبعثرة جغرافيتها.

إن سورية ليست وطناً تحدده الخريطة السورية فقط، وإنما هي وطن يرخي بجناحيه على امتداد جغرافيا الوطن العربي، وبالأخص على بلاد أرض الشام، وهذا ما بدا واضحاً من خلال التصريحات الرافضة لكلام ترامب الأخير في ما خص الجولان العربي السوري المحتل.

فتركيا، رأس الحربة في المؤامرة الكونية على سورية، رفضت قرار ترامب. ودول الخليج، الممول الأساسي للمؤامرة على سورية، رفضت تغريدة ترامب، وحتى الاتحاد الأوروبي الموالي لسياسة العدو الإسرائيلي رفض كلام ترامب السخيف، وجميعهم أقروا بأن الجولان سوري عربي تحتله إسرائيل.

وإذا استثنينا كل الدول التي شجبت ورفضت ما يريده ترامب ونتنياهو، فإن التاريخ يبقى شاهداً ودليلاً على ما أقر به العدو الإسرائيلي معترفاً بهوية الجولان العربية السورية، كان ذلك إبان حقبة رئيس وزراء العدو الأسبق إسحاق رابين والتي عرفت بـ«وديعة رابين».

التاريخ حدّثنا بالوقائع الدامغة أن الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون حصل على وثيقة رابين التي أقرت بأن الجولان سوري عربي، بعد أن أقرّ رابين فيها موافقاً على الانسحاب منها وتسليمها للرئيس حافظ الأسد كشرط لإبرام اتفاق سلام مع سورية. كان ذلك في العام 1994 في جنيف، لكن دينيس روس اليهودي عطل ذاك الاتفاق حين طلب الرئيس حافظ الأسد نسخة عن وديعة رابين فتحجج روس بأن نسخة الوديعة «غير نظيفة». وعندما طلب الرئيس حافظ الأسد نسخة جديدة كانت حجة روس أن الفاكس في تل أبيب تعطل. حينها أدرك حافظ الأسد عقم المفاوضات، وطلب من الوفد المرافق لملمة الأوراق وأعطى أوامره بالعودة إلى دمشق.

أدرك حافظ الأسد أن لا سياسة أميركية في المنطقة، بل هناك سياسة إسرائيلية توسعية تنفذها الولايات المتحدة الأميركية.

إن التاريخ والتجارب المريرة علمتنا أن إسرائيل لا تفهم إلا بلغة القوة، تماما كما حصل بالقرار الأممي رقم 425 الخاص بانسحاب إسرائيل من جنوب لبنان، حيث إن العدو الإسرائيلي لم ينفّذ القرار إلا بعد مرور 25 عاماً، ليس التزاماً بالقرار الأممي، لكن بفعل القوة وتحت ضربات المقاومة اللبنانية الباسلة هارباً مذموماً مدحوراً يجرجر خلفه أذيال الخيبة.

لقد أثبتت التجارب المريرة مع العدو الإسرائيلي أنه لم يعر القرارات الأممية أي اهتمام، وأنه لا يرضخ إلا للقوة. ومن هنا كانت إستراتيجية جمال عبد الناصر بأن «ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة».

صفحات التاريخ لا يكتب فيها إلا قول العظماء، أما صفحة دونالد ترامب فلا تحتوي إلا الباطل، وما غرد به عن الجولان المحتل لا يعدو كونه قولاً باطلاً بلسان جاهل.