لم يكن توقيع الرئيس الروسي ​فلاديمير بوتين​ على مشروع قانون "ال​انترنت​ السيادي" الذي يعطي ​روسيا​ اكتفاء ذاتياً لشبكة الانترنت، مجرد قرار يتعلق بالشؤون المحليّة لروسيا. هذه الخطوة تطرح تداعيات اكبر بكثير من حدود روسيا الجغرافية، كونها تضع حجر الاساس لمشروع حرب الانترنت الذي يتوقع الكثيرون انه سيكون عنوان المرحلة المقبلة، وقد بدأت ملامحه تظهر بوضوح خلال الانتخابات الرئاسيّة الاميركيّة والاتهامات التي وجّهت لروسيا بالتدخل فيها لصالح الرئيس الاميركي الحالي ​دونالد ترامب​.

اللافت في قرار بوتين الاخير، هو انّه يحمل أوجهاً عدّة ومنها انه يؤكد قدرة روسيا المتفوّقة في مجال الانترنت، وهذا أمر من شأنه ان يزيد المخاوف من تدخّلها في دول اخرى عبر الشبكة الالكترونيّة، كما يضع مجالاً أقوى للشكّ في الاتهامات التي وجّهت اليها في هذا السياق. اضافة الى ذلك، فإن اعلان موسكو "استقلالها" في مجال الانترنت، سيفتح الباب واسعاً امام "تخلّص" دول اخرى من سيطرة بعض النافذين والمسؤولين على هذه الشبكة، وخلق بيئة "انترنتيّة" خاصة بها تطمئنها الى ان اعمال مواطنيها لن ترتبط بمزاجيّة اشخاص آخرين خارج دولهم. فمن الذي سيمنع ​الصين​ مثلاً او ​كوريا​ الشماليّة او الهند او غيرها من الدول من ان تحذو حذو روسيا، في الآتي من الايام، والاعلان عن شبكات انترنت محلية تعزلهم عن الشبكة العالمية؟.

عملياً، لا يزال من المبكر الحديث عن "الانترنت السيّادي" لانّ الوصول اليه لا يكون بـ"كبسة زر"، بل يحتاج الى سنوات من العمل الدؤوب لضمان نجاحه، وبالتالي لا يمكن القول ان توقيع بوتين على المشروع يجعله جاهزاً للتنفيذ بين ليلة وضحاها، ولكنه يشكّل خطوة اولى على هذا الدرب، وكلّنا يعلم مدى السرعة التي تمرّ بها الايام... وفي مقابل الجهة الايجابيّة لهذه المبادرة، هناك جهة سلبيّة سيتمّ التركيز عليها حتماً، وتتعلق بالحريّات الشخصيّة وقدرة كل دولة على منع مواطنيها من الدخول الى مواقع او عناوين معيّنة على الشبكة العنكبوتيّة، ناهيك عن الخوف من قدرة المسؤولين في كل دولة على مراقبة ما يقوم به كل مواطن. هذا الامر يمكن تداركه عبر وضع قوانين وطمأنة الأشخاص، لان الخروقات يمكن ان تحصل على الشبكة الدولية ايضاً، بدليل نشر مئات من المعلومات الخاصة عبر الانترنت، المتعلقة بأشخاص من جنسيات مختلفة، واعتراف مواقع التواصل الاجتماعي الاكثر شهرة في العالم ببذل جهود مضنية لمنع اختراق حائط الحماية الموضوع من قبلها، دون ان تنجح في ذلك بشكل مطلق.

وتبقى ايضاً تفاصيل تقنية بحتة يجب توضيحها لجهة كيفية التعاطي مع باقي دول العالم عبر الشبكة الالكترونية، فالمقيم في روسيا مثلاً سيكون عليه الالتزام بالشبكة التي توفّرها البلاد، فكيف سيتواصل مع باقي دول العالم، وما هي تدابير الحماية المتخذة التي ستكفل عدم حصول خروقات في المستقبل لمثل هذه الشبكة؟ والاهم هو ترقّب الردّ الذي سيصدر عن باقي الدول وفي مقدمها ​الولايات المتحدة​، التي تعتبر من الابرز في مجال تتبّع العمل على الشبكة العنكبوتيّة، وتلاقي شركاتها المختصة بالانترنت رواجاً عالمياً قل نظيره، ما يؤمّن سيطرة واضحة لها في هذا السوق.

الخطوة الروسيّة باعلان "اللامركزيّة" في مجال الانترنت، ستكتب صفحة جديدة في تاريخ الحروب، وربما قد تريح الناس من الحروب التقليديّة، ولكنها لن تقلّ خطورة عنها، لا بل قد تكون احد الاسباب المباشرة لاندلاع حروب كبيرة في اكثر من منطقة في العالم، بفضل التعلّق الكبير الذي أظهره الناس في تعاطيهم مع الانترنت بشكل يومي، حيث بات رفيقهم منذ ساعات الصباح الاولى وحتى ساعات متأخّرة من الليل، إضافة الى أن العديد من الاعمال باتت مرتبطة بما يوفّره الانترنت.