بعد إِقْرار المُوازَنة، تُطْلق أَيْدي الوزراء، للشُّروع في العمَل، وضمْن الأَهْداف المَرْسومة حكوميًّا، تَحْويل وزارة المُهجَّرين إِلى وزارة الإِنْماء الرِّيفيِّ... على أَمل أَنْ يُحيَّد هذا الملفّ عن تَسْجيل النِّقاط السِّياسيَّة، لما يُشكِّله من حاجةٍ مُلحَّةٍ لتَحْقيق الإِنْماء الضَّروريِّ في الأَرْياف، وتَحْريك العَجلة الاقْتِصاديَّة خارج نطاقِ العاصمة. فما أَهميَّة أَنْ يُعْمل على إِنْماء المَناطق الرِّيفيَّة بعد إِهْمالها لعقودٍ خَلَت؟...

مَردودٌ اقْتِصاديٌّ

يَسْمح الإِنْماء الرِّيفيّ بتنامي بيوت الضِّيافة في المَناطق الجبليَّة، فتَعْمد العائلات اللُّبنانيَّة إِلى تَأْجير غُرَفٍ في منازِلها للزُّوار مِن السُّيَّاح في مُقابل بَدلٍ ماديٍّ، ما يُعزِّز بالتَّالي "السِّياحة الرِّيفيَّة والتُّراثيَّة"، وضِمْنًا ما يُتيح أَيْضًا شراء المُنْتجات الرِّيفيَّة وتَنْشيط الحَركة ككُلّ.

كما ويُعزِّز الإِنْماء الرِّيفيّ السِّياحة الدَّاخليَّة، إِذْ يُمْكن لزُّوار "بيوت الضِّيافة" أَنْ يَكونوا من اللُّبنانيِّين الرَّاغبين في التَّعرُّف إِلى مَناطق جَديدة...

غير أَنَّ لوزارة السِّياحة دورًا في هذا المَجال، بخاصَّةٍ وأَنَّ الوزارة أَطْلقت مَوْقعًا إِلكترونيًّا يَسْمح لِمَن يَرْغب في حَجْز إِقامَته في "بيتٍ للضِّيافة"، بهدف جَذْب المَزيد من السُّيَّاح، وتعريفهم إِلى التُّراث والهويَّة ال​لبنان​يَّيْن.

وكانَت فِكْرة إِنْشاء بُيوت الضِّيافَة ظَهرت عام 2005، بهدف إِنْماء الرِّيف اللُّبْنانيّ وتَطْوير العَجلة الاقْتِصاديَّة في القُرى، إِضافةً إِلى تَعْريف اللُّبْنانيين -المُقيمين مِنْهم والمُغْتربين– بـ"كُنوز القُرى اللُّبنانيَّة" وعاداتها وتقاليدها... وكذلك تَعْتمد بُيوت الضِّيافة مَعايير جودةٍ عاليةً، من حيث النَّظافة والخِدْمة والطَّعام... فيما تُشْرف وزارة السِّياحة على تَنْظيم القِطاع، وتُعْطي التَّراخيص وَفْقًا لشُروطٍ ومُواصفاتٍ مُحدَّدةٍ. كما ويَخْضع أَصْحاب تلك البُيوت لدوراتٍ وورشِ عَملٍ تدريبيَّةٍ، لـ"حُسْن إِدارة هذه البُيوت، والحِفاظ على جودة الأَطْباق التَّقليديَّة الَّتي تُقدِّمها، إِضافةً إِلى التَّشديد على عاملَي النَّظافة وحُسْن الضِّيافة، وثمَّة مساعٍ بُذلَت لتَصْنيف هذه البُيوت على غِرار تَنْظيم قِطاع الفَنادق...

قرارٌ رِئاسيٌّ

ويُجسِّد السَّعي إِلى إِنْماء الرِّيف عَزْم رئيس الجُمْهوريَّة العماد ​ميشال عون​ تَحْقيق مَشاريعَ إِنْمائيَّةٍ وحيويَّةٍ، مِن شَأْنها تَحْريك الاقْتِصاد وخَلْق فُرَص عملٍ... لكنَّ ذلك لا يَمْنع مُحاولاتٍ قد يَقوم بها بَعْض المُعَرْقِلين، من باب تَسْجيل نِقاطٍ في الزَّواريب السِّياسيَّةِ الضَّيِّقةِ ليس إِلاَّ.

ويَسْمع اللُّبنانيُّون منذ العام 1992، عن "الإِنْماء المُتوازِن الضَّروريِّ لمَرْحلة ما بعد الحَرْب الأَهْليَّة"... وهذا الإِنْماء يَعْني "إِنْماءً جُغْرافيًّا مُتوازِنًا"، وبالتَّالي تَنْبغي مُلاحظةُ الخِدْمات المُؤَمَّنة في العاصِمة، ومُقارَنتها بالخِدْمات في أيِّ بقعة جُغرافيَّة في البلاد. وقد تَخْتلف النِّسب في بعضِ المَجالات، لكن في الخُطوط العَريضة يَنْبغي أَنْ تَكون الخِدْمات وفُرَص العَمل والبُنى التَّحتيَّة ومُقوِّمات العَيْش مُتساويةً بين المَناطق. وذَلك يَحْدُث عندَما يَنْتقل المُواطِن مِن المَدينة إِلى الرِّيف مِن دون أَنْ يَشْعُر بالفارِق، لأَنَّ الحاجات مُؤَمَّنة في شَكْلٍ عادلٍ.

غير أنَّ في لبنان، سَريعًا ما يَنْقلب الحَديث عن الإِنْماء المُتوازِن إِلى تَناحرٍ مَناطقيٍّ وطائِفيٍّ ومَذْهبيٍّ، لأَنَّ الدَّوْلة المَرْكزيَّة لا تَمْلك الأَجْهزة والإِمْكانات لتحقيق تَنْميةٍ مُتوازنةٍ حَقيقيَّةٍ، فيما الحَديث عن إِنْماءٍ مُتوازنٍ لا يَتعدَّى كَونَه "ضَرورة انْتِخابيَّة" لا أَكْثر ولا أَقلّ...

كَسْر الحَلقَة

وللخُروج من دوَّامَة هل يكون الحَلُّ بحَسب ما يراه الخَبير الاقْتِصاديّ إِيْلي يَشوعي، الَّذي لا يَرى بُدًّا مِن اللُّجوء إِلى خيار اللامركزيَّة، مع اسْتِثناء القَرارات السَّياسيَّة والعَسْكريَّة والاقْتصاديَّة الكُبْرى، وعبر اللامركزيَّة، "تتخلَّى الدَّولة عن بعضٍ مِن صَلاحيَّاتها المُتعلِّقة بتَنْفيذ المَشاريع، أَو ببعضٍ مِن الخِدْمات العامَّة، لمَصْلحةِ إِدارات الأَقْضية على سبيل المِثال"؟.

وتقوم الفكرة، على أَنْ يتمَّ تَشْكيل نوعٍ من ​حكومة​ٍ تَنْمويَّةٍ مُصغَّرةٍ على مُسْتوى القَضاء. وكل ما يُجْبى مِن مُسْتحقَّاتٍ للدَّوْلة، يبقى 50 في المئةِ منْه لحُكومة القَضاء، ويَذْهب الباقي إِلى الحُكومَة المَرْكزيَّة، أَيْ إِلى خَزينة الدَّوْلة. وحكومة القَضاء تُؤمِّنُ مثلاً مَعامل للكَهْرباء، إِمَّا عن طريق الشَّركات المَحليَّة أو تلك الأَجْنبيَّة...