قبل ثلاثة أشهر فقط، فتح "​التيار الوطني الحر​" و"​الحزب التقدمي الاشتراكي​" صفحة وُصِفت بالجديدة، من خلال قداس "التوبة والغفران" الذي جرى تخليداً لذكرى شهداء الجبل في كنيسة سيدة التلة في دير القمر، بحضور وزير الخارجية ​جبران باسيل​ والنائب السابق ​وليد جنبلاط​.

يومها، قال جنبلاط إنّ "المصالحة في الجبل فوق كل اعتبار، من أجل لبنان واحد موحد"، فيما شدّد باسيل على أنّ المصالحة لا يجب أن تهتزّ "إذا اختلفنا في السياسة حول مواضيع مثل الفساد والكهرباء"، معلناً طيّ "صفحة دموية من تاريخ حرب الآخرين على أرضنا".

بالأمس، اهتزّت المصالحة من جديد، وارتفعت الفاتورة أكثر، مع سقوط ضحيتين جديدتين من دون أيّ ذنب. وعلى جري العادة، تقاذف الجميع كرة المسؤولية عمّا حصل، ولو أنّ بعض التبريرات أتت "فاقعة"، بل مناقضة لكلّ مفهوم "التوبة والغفران" الذي احتفى به أصحابها قبل أسابيع قليلة، من دون أن يدركوا معانيه...

استفزازٌ وأكثر؟!

في قراءة الحادث الخطير الذي شهدته منطقة عاليه يوم الأحد، والذي تمّ استغلاله سياسياً إلى أبعد الحدود، ثمّة من رمى بكرة المسؤولية على رئيس "التيار الوطني الحر" الوزير جبران باسيل، بمُعزَلٍ عمّن أطلق النار أولاً، وذلك انطلاقاً من خطابه "الاستفزازيّ" الذي اعتمده قبل وأثناء الزيارة، وصولاً إلى حدّ "نبش القبور" من خلال استحضار معارك الجبل، ولكن أيضاً لمجرّد إقدامه على خطوة التجوّل في منطقةٍ محسوبة مذهبياً وطائفياً على أحد خصومه، وبالتحديد "الاشتراكي".

قد يجد أصحاب هذه القراءة ما يبرّرون به موقفهم، باعتبار أنّ الجولات الأسبوعية لوزير الخارجية، والتي يضعها البعض في خانة "دعائية" استعداداً للمعركة الرئاسية التي لم يحن أوانها بعد، باتت بمجملها تستحضر التفرقة بالحدّ الأدنى، وهو ما دفع رئيس تيار "المردة" النائب السابق ​سليمان فرنجية​ مثلاً إلى الحديث بعد حادث الجبل عن "فتنة متجوّلة" في غمزٍ من قناة باسيل. فما حصل في الجبل، حصل سابقاً في العديد من المناطق التي ارتأى باسيل أن يجول فيها، وإن لم يرتق إلى مستوى الرصاص والدم، ولا سيما في بشري وزغرتا، ولو بنسبٍ متفاوتة.

المشكلة برأي هؤلاء، أنّ باسيل يحطّ في هذه المناطق من دون المرور بما بات يصطلح على تسميتها بـ"بوّاباتها"، في إشارة إلى الطرف السياسيّ النافذ فيها، وهو ما يؤدي تلقائياً إلى "استفزاز" البيئة الحاضنة له، لتصل الأمور إلى ما لا تُحمَد عقباه، علماً أنّ التصريحات التي يدلي بها باسيل من قلب هذه المناطق تفاقم الأمر سوءاً، كما حصل في الجبل مثلاً، عندما استحضر معارك سوق الغرب وضهر الوحش والكحالة وغيرها من معارك الحرب الدامية، وإن أرفقها بحديثٍ مكرّرٍ عن طيّ الصفحة والتفاهم والانفتاح وما شابه ذلك.

الخطيئة أكبر!

وإذا كان بعض أصحاب هذا الرأي يذهبون إلى حدّ المقارنة بين باسيل وغيره من "الزعماء" الذين لا يجولون سوى في المناطق المحسوبة عليهم تفادياً لمثل هذه النتائج، فإنّ كثيرين يرون في مثل هذه المقاربة "خطيئة لا تغتفر"، بل تؤكد أنّ لبنان لا يزال يعيش زمن الحرب، شاء من شاء وأبى من أبى، باعتبار أنّ هناك من لا يزال مقتنعاً بأنّ ثمّة مناطق مغلقة لمجموعة من اللبنانيين ومحرّمة على آخرين. ولعلّ المفارقة في هذا الصدد تكمن أنّ مثل هذه التبريرات، جاءت في وقتٍ لا يزال الجدل حامياً حول قضية ​بلدية الحدت​ وما فجّرته من احتقانٍ، كان المعترضون فيه على زيارة باسيل إلى الجبل، هم أول من استهجنوا المنطق الطائفي الذي اعتُمِد في الأولى.

قد يقول قائل إنّ ما حصل في الجبل له، على رغم كلّ شيء، مبرّراته، إذ إنّ زيارة وزير الخارجية وُضِعت في مكانٍ ما في خانة "إحراج" جنبلاط، الذي يعاني أصلاً ما يعانيه جراء التسوية الرئاسية، وما أفرزته من تراجع لدوره وتقلّص لنفوذه، ترجم قبل أسبوعٍ واحدٍ من خلال الاشتباك الكلامي مع رئيس الحكومة ​سعد الحريري​، والذي لم يُعالَج نهائياً حتى الساعة، وصولاً إلى حدّ محاولة عزله وإقصائه، وهو ما بات الرجل يتحدّث عنه صراحةً، بل يذهب إلى حدّ الشكوى من "مؤامرة" لاستهدافه، بتوجيهٍ وإشرافٍ مباشرَيْن من النظام السوري، انتقاماً منه بسبب الموقف الذي اتخذه على مدى سنوات الأزمة في مواجهته.

إلا أنّ ذلك، وإن صحّ، لا يبرّر الكثير من "الخطايا" التي يمكن أن تُسجَّل على هامش زيارة باسيل إلى عاليه، والتي لم يرتكبها الجمهور "المُعبَّأ" فحسب، بل وصلت إلى أرفع القياديّين في "الاشتراكي"، الذين ذهب بعضهم إلى حدّ دعوة باسيل إلى أن "يحلّ عن ضهرنا"، ومطالبته بالاكتفاء "بالزيارات الخارجية (بوصفه وزيراً للخارجية)، وليس الزيارات الفتنويّة الداخليّة". وفي مثل هذا الخطاب، تكريسٌ لا جدال حوله للمنطق الطائفي والمذهبي الذي يطالب "الاشتراكيون" قبل غيرهم، نظرياً، بالتخلّي عنه، فضلاً عن "تنميطٍ" قد يكون باسيل أكثر المستفيدين منه، من خلال تصويره وكأنّه من يمدّ يده إلى "الشركاء" وينفتح عليهم، فيما هم يريدون قطع الطريق عليه ومنعه من ذلك.

وفي السياق، ثمّة من يطرح علامات استفهامٍ أكبر حول تبرير "الاشتراكي" لاستهداف موكب الوزير ​صالح الغريب​، بالقول إنّ مرافقي الأخير هم من بادروا بإطلاق النار، وأنّ الردّ القاتل جاء "دفاعاً عن النفس" ليس إلا، وهو إذا ما صحّ، لا يصبّ في صالح الحزب الذي يشكو في أدبيّاته السياسية من انتشار السلاح في مناطق أخرى، فإذا به موجودٌ بين أيدي متظاهرين كان يفترض أنّهم يعبّرون "سلمياً" عن موقفٍ اعتراضيّ على زيارة سياسية، وهو ما يجدر أن يتمّ نقاشه بشكلٍ مسؤولٍ في القادم من الأيام.

هدايا مجانية...

قد يكون باسيل "مُستفِزاً" بالفعل من خلال جولاته الأسبوعية التي تقوده عن سابق تصوّر وتصميم إلى مناطق خصومه، التي باتت أشبه بـ"مربّعات أمنية"، ولو كانت حكومة واحدة تجمعه بهؤلاء، وقد يكون "مستفزاً" أكثر من خلال خطابه، الذي يصفه البعض بالاستفزازي والاستعلائي والعنصري، وحتى الطائفي والمذهبي.

لكن، حتى لو كان ذلك صحيحاً، فإنّ الأكيد أنّ الرجل، ومع كلّ زيارة يقوم بها، يحصد هدايا مجانيّة من خصومه، تارةً بسجالٍ لا طائل منه حول "لافتاتٍ ترحيبيّة" به كما حصل في بشرّي مثلاً، وطوراً بقطع طرقات وإشعال إطاراتٍ، وصولاً إلى افتعال إشكالٍ، ما يرفع من رصيد الوزير "المنفتح" على حساب خصومه "الممتعضين".

بيد أنه وبعيداً عن منطق الربح والخسارة، الذي يسقط تلقائياً مع سيلان الدماء، يبقى الأكيد أنّ "مصالحة الجبل" اهتزّت على الأرض، وأنّ المطلوب من أصحابها أن يلتزموا، على الأقلّ طالما أنّهم عاجزون عن أكثر من ذلك، بما تعهّدوا به قبل أشهر، حين احتفوا بتوبةٍ وغفرانٍ، تبيّن عند الامتحان الأول أنّهما مجرّد شعارات...