اسْتِكْمالاً لما كنَّا أَشَرْنا إِلَيْه في المَقالة السَّابقة، في شَأْن "وَسائل الغِشِّ"، وفي إِطار فَتْح الباب على الأَسْباب الَّتي تُؤَدِّي إِلى اعتِمادها، ومنْها العَوامل الأُسَريَّة، وقُدرات المُتعلِّمين، وطَبيعة المَنْهاج الدِّراسيّ، وظُروف الاخْتِبارات، إِضافةً إِلى وجوب إِعادة النَّظر في كَثافة المَناهج... لا بُدَّ تاليًا من الإِشارة إِلى وجوب اتِّخاذ وزارة التَّرْبية إِجْراءاتٍ شديدة الحَزم، لمنع كلِّ أَساليب الغشّ المُنَظَّم في ​لبنان​، بدلاً من اللُّجوء إِلى تَرْكيب "كاميرات المُراقبة" في غُرف الامْتِحانات الرَّسْميَّة، في إجْراءٍ عديم الجَدْوى، كما وأَنَّه لا يَخْلق المُناخ المَطْلوب لراحة المُتعلِّمين النَّفسيَّة خلال الامْتِحانات، وبخاصَّةٍ مُتعلِّمي الشَّهادة المُتوسِّطة.

كما وعلى الوزارة "تَغْليظ العُقوبات" في حقِّ مَن يتَّبِعون أَساليب الغشّ، والحَزْم في هذا المَجال، فيما قَد يتَلقَّى المُتعلِّمون خِلال الامْتِحانات إِجاباتٍ هِمْسًا، لا تَلْتقطُها كاميرات المُراقَبة، ما يَعْكس وجود خَللٍ، يَسْتوجب كَشْفه ومُعالَجته…

وكذلك فمِن النَّافع تَنْظيم ورشِ عملٍ ومُحاضراتٍ للمُتَعلِّمين، بتوجيهٍ من وزارة التَّرْبية وتنسيقٍ من كلِّ المَدارس الرَّسْميَّة مِنْها والخاصَّة، قُبيل الامْتِحانات الرَّسْميَّة، للإِضاءَة على خُطورة ظاهرة الغشِّ، انْطِلاقًا مِن أَهميَّة التَّوْجيه والنُّصْح وغَرْس الصِّدق والأَمانة في نُفوس المُتعلِّمين، بأُسلوبٍ مُقْنعٍ، تَرْبويٍّ ومُبْتَكَر، بعيدًا من اسْتِخدام النَّمَط الإِيْعازيّ في الكلام (عَلَيْكم أَن... أَفْعال الأَمْر والطَّلب...(.

رأْيٌ تَرْبَويّ

ويرى بَعْض الإِخْتِصاصيِّين التَّرْبويّين أَنَّ "الغشّ سُلوكٌ مَرْفوض، تُغذِّيه العشوائيَّة، بسبب عدم تَنْظيم الوَقت، وتَحْديد فترةٍ زمنيّةٍ لكلِّ مادَّة وفقًا لمُحْتواها وحاجتِها". كما وتَكْمُن الخُطورة في تَطْويعِ التِّكْنولوجيا في شكلٍ سَلْبيٍّ، وتَوْظيفها لتَسْهيل الغشِّ كالسَّاعات الإِلكترونيَّة، إِضافةً إِلى السمَّاعات الدَّقيقة الَّتي تُخْفى داخل الأُذن، بحَيْث يَجْري التَّواصل مع شخصٍ مِن الخارج، وتلقِّي المَعْلومات مِن خلالها".

وكذلك ثمَّة دورٌ للأُسْرة في هذه "الخارطة الإِصْلاحيَّة التَّرْبويَّة"، إِذ مِن شَأْنِها تَعْزيز مَنْظومة القِيَم، وتَوْفير الجوِّ المُناسب للأَبْناء بَعيدًا مِن أَيِّ إِزْعاجٍ، بحَيْث يَتفرَّغ الابْن للدِّراسة والاجْتِهاد.

ولا بُدَّ مِن أن يُسْتتبع التَّوْجيه بتَدابير وزاريَّةٍ قد تَكون بمَثابة "إِجْراءاتٍ تَصْحيحيَّةٍ" تَصبُّ في مَصْلحة المُتعلِّم، ومِنْها إذا ثَبُت الغشّ أَثْناء الامْتِحانات، حِرْمان المُتعلِّم المَعنيّ مِن الامْتِحان برُمَّته، وتَحْديد ضوابطَ مُهمَّةٍ للعامِلين في لجان التَّصْحيح، ولا نَقْصد هُنا الإِيْعاز إِلَيهم بالتَّشدُّد إِلى أَقْصى الدَّرجاتِ في تَطْبيقِ أُسُس التَّصْحيح المُتَشَدِّد بِها أَصْلاً، بِهدف خَفْض نِسْبة النَّاجِحين، على اعْتِبار أَنَّ مِن شَأْن ذلك رَفْع مُسْتوى الشَّهادة الرَّسميَّة. فالنَّظريَّات التَّرْبويَّة الحَديثة تُؤْمن بأَنَّ التَّرْبية المُميَّزة هي الَّتي تُؤدِّي إِلى نَجاح أَكْبر نِسْبةٍ من المُتعلِّمين وليس العَكْس!.

ولا شكَّ أَنَّ وزارة التَّرْبية كانَت هَذه السَّنة، أَكْثر تَشدُّدًا في تَنْفيذ بَعْض الإِجْراءات، ومِنْها حَظْر حَمْل المُراقبين والتَّرْبويّين الهَواتف أو اسْتِخْدامها، وكذلك أَيِّ جهازٍ إِلكترونيٍّ داخِل قاعات الامْتِحانات، ولِجان المُراقَبة، ومَراكز طِباعة الامْتِحانات، كما وأَخَذت الحيطَة والحَذر في التَّعامُل مع وثائق الامْتِحان بسريَّةٍ تامَّةٍ، وقد حرصَت الوزارة على أَنْ يَحْصل كلُّ مُتعلِّم على علاماتِه مِن مَجْهوده الشَّخصيِّ...

نَحو إِصْلاحٍ شاملٍ

إنّ الإِصْلاح التَّربويَّ عمومًا في لبنان، ما زال مَسارًا غير واضح المَعالم، وهو يَبْدأ بالمِنْهاج الرَّسْميّ والإِصْلاحات على مُسْتوى الهَيْكليَّة في المُؤسساتِ التَّرْبوية الرَّسْميَّة، وفي تَطْوير أَدائِها التَّرْبويّ، في سياق مُحاولاتِ إِصلاحِ التَّعْليم وتَجْديده... كيْلا نَصِل إِلى ما كان يَقولُه بن خلدون في سِياق حَديثه عن البَرامج التَّعليميَّة ومَهارات المُتَعلِّم: "فَتَجد طالِب العِلْم مِنْهم بعد ذهاب الكَثير مِن أَعْمارهم في مُلازمة المَجالس العِلْميَّة سكوتًا لا يَنْطقون وعنايتُهم بالحِفْظ أَكْثر من الحاجةِ" (إبن خلدون–المُقدِّمة(.