منذ التسوية التي اصطلح على تسميتها "​التسوية الرئاسية​" كونها أدّت الى ارساء مرحلة جديدة في لبنان انهت الفراغ الرئاسي الذي كان سائداً لمدة اكثر من سنتين، والجميع يعتقد ان تفاهم رئيس الجمهورية العماد ​ميشال عون​ ورئيس الحكومة ​سعد الحريري​ قادر على التغلب على كل المشاكل التي يمكن ان تطرأ. في الواقع، تعرّض هذا التفاهم بالذات لخضّات كثيرة، ولكنه لم يقع واكمل حياته العادية، ولو انه لم يكن بالصلابة التي علّق عليها الكثيرون اهميّة كبيرة لنقل البلاد من واقع الى آخر.

خطة عون بأن تكون الحكومة الحالية (حكومة "الى العمل") هي حكومته الاولى التي ستبدأ بتنفيذ افكاره ومشاريعه في لبنان، واجهت انتكاسة كبيرة لم تساعدها خطة الحريري في ان يكون رئيس الحكومة الذي أرسى واقعاً جديداً أنقذ فيه لبنان من حافة الهاوية. اما السبب في افشال هذه الخطط، فاسمه واحد ووحيد: السياسة (وفق المفهوم اللبناني). ليس هذا الاسم غريباً عن اللبنانيين، وليس بعيداً عنهم انه السبب الرئيسي في خراب الوضع وتخريبه، ولكنهم استبشروا خيراً حين اعلن كل من عون والحريري بعد تشكيل الحكومة انهما عازمان على ابقاء الخلافات السياسية خارج جلسات مجلس الوزراء، وألا يكون المجلس ساحة خلاف سياسي لافرقائه، بل ساحة تلاقٍ على المشاريع والمواضيع التي تهمّ الجميع اقتصادياً ومالياً وحياتياً.

لم يكن اللبنانيون يصدّقون هذا الكلام سابقاً في ظلّ عدم تناغم رئيس الجمهورية مع رئيس الحكومة في مراحل فائتة، وحتى عند تناغمهما لم يكونا قادرين على تأمين هذه الرغبة في ظل وجود وزراء ينتمون الى جهّات سياسية عديدة لا تربطهما بها علاقات متينة. ولكن المواطنين اعادوا التفكير في هذا المجال، بعد ان اعتبروا ان وضع عون-الحريري يختلف عن كل الاوضاع السابقة، ان لجهة التفاهم القائم بينهما، او لجهة تمتعهما بنفوذ قوي داخل الحكومة، او لقدرتهما على التواصل الايجابي البنّاء مع غالبية الاحزاب التي تتمثل في الحكومة، لابقاء الخلافات السياسيّة خارج ابواب الجلسات. ولكن كل هذه التوقعات ذهبت ادراج الرياح مع حادثة ​قبرشمون​ التي عطّلت الحكومة (ولو اختلفت اسباب عدم انعقادها: تعطيل من قبل مكوّناتها، او قول الحريري انه هو من اوقف عقد جلساتها وليس سواه...)، في ظل اعتراف الجميع ان لبنان لم يعد يملك "ترف اضاعة الوقت" وهي الجملة نفسها التي تردّدت على لسان غالبيّة المسؤولين. ومرة جديدة، ظهرت العوامل السياسية انها هي التي تملك مفتاح شلّ المؤسسات، وانها قادرة على منع انعقاد اي جلسة حكومية كانت ام نيابية، وانها لا ترضى في البقاء خارج ابواب مجلس الوزراء او ​مجلس النواب​ او ان تكون مجرد موضوع هامشي على الطاولة. لم يعد اللبنانيون يؤمنون بأن التفاهم بين قطبين او ثلاثة اقطاب قادر على فرض الحلول، فالتسوية السياسية هي التي دشّنت مرحلة جديدة في لبنان، والسياسة هي التي تقرر مصير لبنان وليس الوضع الاقتصادي او المالي او حتى العسكري، مهما كانت درجات خطورة هذه الاوضاع، لانها قادرة على الدخول الى اي منها وزعزعتها في وقت قصير جداً. وهكذا، اطاحت السياسة بخطط عون والحريري، واجبرتهما على انتظار الوصول الى حل، والركون الى جهود المدير العام للامن العام ​اللواء عباس ابراهيم​ لـ"تدوير الزوايا"، فيما على العالم والمؤسسات المالية الانتظار لمعرفة كيفية التعاطي مع لبنان في ظل المخاطر الاقتصادية التي تطرق بابه وتهدد مصيره.

صحيح ان المسؤولين لا يملكون "ترف اضاعة الوقت"، ولكن السياسة في هذا البلد هي الاقوى، وهي تملك ترفاً لا يملكه سواها في اضاعة الوقت والفرص وكل ما تشتهيه، لانها بالفعل تشكّل الآمر الناهي ولا يمكن لاحد ان يتخطاها مهما تغيّر اسمه ومركزه وشعبيته، فهي وللاسف، الثابتة والمنتصرة وهم الزائلون والخاسرون.