تراجع فكرة الدولة وبروز "نظريات جديدة" على الوضع اللبناني من نوع "الديموقراطية التوافقية" و"الميثاقية الطوائفية" التي تعني تمثيل الاقوى في الطائفة. ان هذا التراجع وهذه النظريات العقيمة ليس من شأنه سوى المزيد من تفكيك الدولة وتهيئة الظروف لاحتمالات تقسيم البلد او تكريس واقع الكانتونات الذي يقيم سدوداً امام التواصل والاعتراف بالآخر.

قد يكون الامام السيد موسى الصدر هو السبّاق لقراءة ما نحن فيه حالياً في مقاربته لقيام "دولة لبنان الكبير" حيث رأى ان هذه الدولة ليست سوى امتداد لنظام المتصرًفية بالحاق شكلي للاقضية الاربعة اداريا بحيث بقيت الدولة الفعلية والعميقة في حدود "دولة المتصرفية" من دون ان تستفيد الاطراف من حضور الدولة انمائياً واداريا وبقيت مصدرا لاحزمة البؤس في ضواحي بيروت تطوَق العاصمة كعنق الزجاجة على ما يقول السيد الامام. وكل ذلك ناجم عن الخلل العميق في بناء الدولة وفي العلاقة بين المركز والاطراف. من هنا كانت دعوة السيد موسى الصدر الى "دولة المواطنة التي تلغي السقوف المتعددة للمواطنية وللمناطق بسبب بناء الدولة على الطوائفية السياسية التي اعتبرها العلّة التي ستحول مستقبلاً دون قيام الدولة الحقيقية اي دولة المواطنة التي يعني فيها بالعمق "الدولة المدنية" حيث يتساوى المواطنون في الحقوق والواجبات ويتم استبعاد العامل الطائفي والسياسي عنها اي فصل الدين عن الدولة وتعميق الطابع الايماني باعتبار "ان الاديان هي واحدة عندما نلتقي في الله . وخدمة الانسان هي الطريق الى الله وان القاسم المشترك بين المسيحية والاسلام هو الانسان الذي هو هدف الوجود وبداية المجتمع والغاية منه والمحرك للتاريخ".

خلافاً لنظريات الديموقراطية التوافقية والميثاقية الطوائفية والتي تعني التوافق "من فوق" كان هاجس ​الامام موسى الصدر​ بناء الوحدة الوطنية "من تحت" اي من القاعدة وباعتماد مفاهيم بسيطة وبدون تعقيدات ايديولوجية .ومن دون اللجوء الى مقولات الطبقة او الاشتراكية اصطف الى جانبه العمال والمزارعون والحرفيون ومتوسطو الحال والبورجوازية التي تضرًرت من نظام المزارع السياسية والتي التقت مع الامام موسى الصدر حول فكرة تحديث الدولة والادارة وعصرنة الاقتصاد و انماء الارياف. فالامام كان يعني ب "دولة المواطنة" الدولة القوية والقادرة والعادلة ، الدولة التي تستعيد حيوية الطبقة المتوسطة والتي هي عنصر التوازن الاجتماعي. الدولة التي تهتم بالشباب الاكثر تأثرا بمشاكل السكن والبطالة والطوائفية. الدولة التي تهتم فعلا بالمرأة وتشركها في القرار السياسي والاداري و​مجلس النواب​ و​الحكومة​ وخارج استتباعها للثقافة الرجولية. الدولة التي تعتبر لبنان جزءاً من محيطه العربي وهواجسه ومشاكله بحيث تحمي حدودها من المشاريع الاسرائيلية وتصون المقاومة والدولة التي تواجه الفساد الاداري والسياسي. الدولة التي تدعم ​الجيش اللبناني​ كونه اداة تحقيق وضمانة الوحدة الوطنية. الاخذ بالقيم المدنية واعطاء الاولوية للحوار واسقاط لغة التحدي في العلاقات بين الطوائف. وهذه الناحية التقى فيها الامام موسى الصدر مع المطران ​غريغوار حداد​ و​المطران جورج خضر​ والدكتور حسن صعب والاب ​يواكيم مبارك​. ذلك ان مفهوم القيم المدنية كان نقاشه واسعاً بين هؤلاء في "الندوة اللبنانية" حيث تفرًغ المطران غريغوار حداد في الكراريس التي اصدرها حول المجتمع المدني على ايضاح حقيقة ان القيم المدنية تلتقي والقيم الدينية والقاسم المشترك بينهما هو البعد الانساني. وهذا التوجه المدني كان يلتقي مع فكرة الامام الصدر التي تدعو الى تغليب فكرة المواطنة في وطن على فكرة المواطنة في طائفة وعلى ان القوانين الوضعية هي من الضرورات عكس ما تدعو اليه التنظيمات الدينية المتطرفة التي تعتبر مثل هذه القوانين انها من صنع البشر وبالتالي هي "جاهلية" اي كفر... باعتبار ان القوانين الالهية وحدها ينبغي الاخذ بها وهي القوانين التي تدعو الى قيام الدولة الاسلامية في لبنان او في غيره.... وبهذا المعنى كان الامام تجديدياً وربط الدين بضرورات العصر والخصوصية اللبنانية. فالامام ادرك اهمية الصيغة اللبنانية التي تعني في ما تعنيه "التمسك بوحدة لبنان وانسجامه مع المنطقة وصيانة كونه امانة للحضارة العالمية" . اهمية هذه الصيغة انها تقدًم البديل لنظرية حرب الحضارات والتي تركز على الصراع بين الحضارتين الغربية والاسلامية.

وهذه "الصيغة الفريدة" تحصينها يتم في صيانة ما سمًاه الامام الصدر "سياج الوطن" اي لجم التأثيرات السلبية الخارجية عن الوضع اللبناني. من هنا في مرحلة أولى اخذ موقفاً ضد "الحرب الأهليّة" واعتبر ان الفتنة الداخلية اشد خطراً من الخطر الاسرائيلي على الداخل اللبناني. ففي "الفتنة" يقتتل اللبنانيون في ما بينهم فيما الاعتداءات الاسرائيلية على السيادة اللبنانية توحّدهم. ولذلك لم يذهب مع اليسار اللبناني لا في شعار عزل الكتائب ولا في الدعوة الى تغيير النظام السياسي في ظل الحرب اللبنانيّة. ذلك انه رأى ان شعار عزل الكتائب في الترجمة الفعلية هو دعوة الى عزل المسيحيين كما انه لا يمكن تغيير النظام السياسي او اصلاحه في ظل الحرب اللبنانية والتوترات الطائفية وبهذا المعنى فان اعتصامه في مسجد العاملية كان اعتراضاً على الحرب والتدخلات الخارجية.

في الوقت الحالي هناك اضافة الى التدخلات الخارجية والمناكفات الطوائفية ضغوطات العامل الاقتصادي والمالي بابعاده الخارجية. اي ان "سياج الوطن" الذي حاول تدعيمه وترسيخه الامام موسى الصدر تصيبه "الشقوق العميقة". فهذا "السياج" كان سبباً فعلياً لتغييب الامام موسى الصدر عندما حاول "تحييد الصراعات العربية وغير العربية عن الداخل اللبناني مع الابقاء على التزام لبنان بما يمليه الصراع العربي–الاسرائيلي وما يفترضه كون لبنان جزءاً من محيطه العربي". ووقتها نجح الامام موسى الصدر في تأمين اجماع لبناني. اجماع المراجع الروحية اللبنانية واجماع جبهة المحافطة على الجنوب. كما نجح في توفير غطاء عربي من عواصم القرار الرياض والقاهرة ودمشق والكويت والجزائر. ونصحه الرئيس الجزائري بومدين بزيارة ليبيا ولقاء الرئيس معمًر القذافي لتحييد ليبيا التي كانت تروّج لاعتبار المسيحيين في لبنان نتاجاً للغزو الصليبي للمنطقة واستمرارا له. وهذا ما كان الامام موسى الصدر يرفضه ويعترض عليه بقوة ويعتبره اساءة للمسلمين قبل المسحيين. وهذا ما يفسًر مسألة "تغييب الامام موسى" ومسألة ابقاء الوطن اللبناني اسيراً للازمات المتواصلة سيًما وان الهواجس الطوائفية وحساباتها هي الطاغية. فالسياج الذي كان يسعى اليه السيد موسى الصدر لاقامة وطن حقيقي عبر "دولة المواطنة" هو غير موجود. كما ان السقوف المتعددة للمواطنية والطوائف تتحكم في كل شيء في ظل نظريتين خاطئتين هما الديموقراطية الطوائفية وتمثيل الاقوى في الطائفة مع ما يستتبعه ذلك من تقليص لدور الاقليات: الكاثوليك والارثوذكس والدروز. وما يفتح من شهية الصراع داخل كل طائفة.

يبقى ان البلد الآن يحتاج الى اطفائي والى انتزاع التنازلات المتبادلة . يقوم بهذه المهمة بنجاح احد ابناء الامام موسى الصدر الرئيس ​نبيه بري​ الذي تحتاجه الازمات المتفجّرة في كل مرة للتدخل. وبالرغم من ذلك المسار اللبناني مهدّد كون الطوائفية السياسية "لغم" يصعب تفكيكه وقابل للانفجار في اي لحظة.