لقد تنوعت أساليب الحروب وتوزعت على غير عنوان ووسيلة، منها العسكري ومنها السياسي والاقتصادي، لذلك نرى ​الإدارة الأميركية​ وأدواتها اليوم تتكالب وتستأسد لمحاولة حصار محور المقاومة وخنقه، وكل المعارضين والمخالفين للسياسات الأميركية في المنطقة والعالم، وهذا ما سلكته واشنطن مع كل من كوبا وفنزويلا، وقبلهم مع الاتحاد السوفياتي، من حرب اقتصادية، شكّلت إحدى الأدوات الناجعة في الحرب الأميركية على الخصوم والأعداء. وهذا ما فعله الأميركيون في العراق عندما حاصروا الشعب العراقي، منذ العام 1991 حتى العام 2003 فاجتاحت الولايات المتحدة بلاد الرافدين، لتجد المواطن العراقي يستنجد بالشيطان، هربًا من العقوبات والوضع الاقتصادي والإنساني المتردي.

لا يخرج ما يمارس اليوم من ضغوط، ومن حصار غير مسبوق على ​إيران​ و​سوريا​ واليمن وفصائل المقاومة في العراق و​لبنان​ وفلسطين عن هذا السياق، لذلك فإنّ كل الممارسات الأميركية بعد إخفاقها ويأسها من تطويع محور المقاومة وهزيمته عسكريًا؛ تتوسّل هذا الأسلوب بوحشية غير مسبوقة. لذا، فإنّ الأزمة الاقتصادية في لبنان تمثّل أحد وجوه هذه الحرب، وتخدم الغرض نفسه، في محاولة لتأليب الشعب اللبناني على المقاومة في لبنان والانتقام منه.

من هذه الخلفية الكاشفة للمؤامرة، يفتح المشهد الشهيّة لتحليل ما ورد في كلمة الأمين العام ل​حزب الله​ ​السيد حسن نصرالله​ في العاشر من محرّم هذا العام بمقاربة مختلفة وجريئة للوضع الداخلي اللبناني، بعدما لامست الأزمة الاقتصادية في لبنان الخطوط الحمراء، جرّاء السياسة الاقتصادية والاجتماعية للطبقة السياسية الحاكمة منذ العام 1992 والتي أدّت إلى تدهور الأوضاع بشكل مخيف، وهو ما كان حزب الله دائمًا مُطَالَبًا فيه من قِبَل جمهوره وبيئته الحاضنة، وكثير من اللبنانيين، ببذل جهد أكبر، والضرب على الطاولة لمكافحة الفساد والمفسدين، ومعالجة أزمة خدمة الدين، تفاديًا لانهيار البلد فوق رؤوس الجميع، ما عدا المستفيدين من الطبقة الحاكمة وحاشيتهم الذين أمّنوا على أموالهم في مصارف الغرب، وكدّسوا فيها سندات عقاراتهم.

في تحليلنا للخطاب المهم، سنورد بعض الملاحظات التي تفسح المجال لفهم المفاتيح الأساسية، والقراءة بين سطور الكل التي تحدث عنها السيد نصرالله، مع الإشارة إلى رمزية الزمان والمكان، والملحمة التي تقام ذكراها سنويًا، وصاحب المناسبة في العاشر من محرم كل عام، الذي خرج لطلب الإصلاح في أمة جدّه رسول الله محمد(ص): بعد وصول الأزمة الاقتصادية الى وضع خطير، ظهر واضحًا، أنّ خطاب السيد نصرالله كان مختلفًا في شقّه الداخلي -موضوع حديثنا- فكان لافتًا قوله استهلالًا، إنّ الوضع الاقتصادي ليس ميؤوسًا منه، وأنّ هناك تهويلًا كبيرًا يمارس على الناس، للقبول بتحمّل كلفة العجز والدين، وأضاف أيضًا إنّ المقاربات، ومواجهة التحديات ليست على المستوى المأمول، وليست بالجدية الناجعة والمطلوبة التي تؤدي الى علاج جذري للأزمة، وفي هذا اتهام واضح أنّ كل "العَلْك" على الشاشات والمنابر، الذي يدور على ألسنة الكثير من المسؤولين، وتنظير حديثي النعمة السياسية الذين وصلوا إلى السياسة على خلفية صفاتهم كهيئات اقتصادية وأصحاب مصارف ومتمولين؛ ومسؤولين حاليين وسابقين؛ لا يُعوّل عليه في إيجاد مخارج حقيقية وواقعية للأزمة.

كانت الإشارة المبدئية ثانيًا، إلى تظهير رأي حزب الله في الاعتراض على الضرائب التي تمس الطبقات الفقيرة، وذوي الدخل المحدود، والفئات الشعبية (هناك نقاش حصل في الصالونات السياسية، بعد إقرار الموازنة، في ما إذا ما استطاع حزب الله في موازنة العام 2019 فرملة اندفاعة المنظّرين في الأوليغارشية الحاكمة، ومن السياسيين المرتبطين بأصحاب المصارف، والمستفيدين من الامتيازات، وخاصة في موضوع فرض ضريبة 3% على البضائع المستوردة بعد إقرارها بالأكثرية في المجلس النيابي بعد إعفاء بعض السلع من الضريبة. وسُجّل جهد وإنجاز واضحان في مناقشات ​لجنة المال والموازنة​، فيما خص ملفات عديدة، منها حقوق أساتذة الجامعة اللبنانية وموازنتها، ومد اليد إلى معاشات الموظفين والمتقاعدين وغيرها من الملفات. ولكنّ سنونوةً واحدة لا تصنع ربيعًا، فالموضوع أكثر خطورة بكثير.

وفي السياق نفسه، أشار السيد وبشكل واضح إلى وجوب استرداد الأموال المنهوبة للدولة اللبنانية من الأغنياء الأغنياء، ومن الأباطرة واللصوص، الذين نهبوا خزينة الدولة والمال العام، وهذه إشارة ليست ببسيطة، يوردها السيد في خطاب العاشر من محرم، وأراد من خلالها الإشارة إلى أحد الحلول الناجعة لمعالجة الأزمة الاقتصادية، وتحميل الذين نهبوا الماليّة العامة المسؤوليّة، وليس الناس الذين دفعوا ثمن جشع الفاسدين في الدولة اللبنانية، وفي ذلك دلالة أيضًا على أن السارقين معروفون، وأنّ جزءًا منهم يجلس على الطاولات لمناقشة الأوراق الاقتصادية، وباقي اللصوص لم تتم دعوتهم لأنهم أصبحوا خارج السلطة، ولكنهم محميون من طوائفهم ومن... الأميركيين.

رابعًا، لفت نصرالله الى أن الناس غير واثقة بالكثير من الطبقة السياسية والاقتصادية المولجة بعلاج الأزمة، والناس يعلمون أن ما يدفعونه لا يذهب بمجمله الى الخزينة، بل إلى الناهبين والسارقين والمستفيدين من الدوائر القريبة من رجال السلطة والسياسة والاقتصاد. فمعنى ذلك أنّ جزءًا من السياسيين يكذبون على الناس، ولا يريدون حلًا للأزمة الاقتصادية.

خامسًا، كانت الرسالة الأكثر أهمية في الخطاب، وهي وجوب التعامل بشكل مختلف مع العقوبات الاقتصادية الأميركية المتمادية والفاجرة، لأنها تخدم الهدف الأميركي الإسرائيلي. فالمخطط واضح، ولا يحتاج إلى كبير جهد في تفسيره، وهو محاصرة المقاومة والبيئة الداعمة والحاضنة لها،عبر مسارين:

الأول فرض عقوبات مباشرة على مسؤولين في حزب الله مرة، وعلى المؤيدين الداعمين للمقاومة في الموقف عبر الدائرة الأبعد والأشمل، وهي طبقة الميسورين من الطائفة الشيعية، مغتربين ومقيمين، أفرادًا ومؤسسات، ومصارف يملكها متمولون شيعة مرة أخرى.

الثاني يتمثّل بالضغط عبر الدائرة الأكثر اتساعًا، متمثّلة بالوضع الاقتصادي للبنان برمته، ويهدف الأميركي من خلال ذلك إلى تحقيق هدفين:

الأول هو تجويف المجتمع اللبناني وإفقاره، وتشتيت انتباه المواطن وعزوفه عن قضاياه السياسية المصيرية والمهمة، والتلهي فقط بتأمين قوت أبنائه وعياله. من دون الوصول بالاقتصاد إلى الانهيار الكامل، لأنّ أي انهيار محتمل قد يعيد تشكيل السلطة، وقد يؤدي إلى عقد اجتماعي جديد، سيطيح بأدوات المشروع الأميركي في الدولة العميقة اللبنانية، والملكيون أكثر من الملك، الذين لا يتوانى المسؤولون الأميركيون، وعلى رأسهم مساعد وزير الخزانة الأميركية لشؤون مكافحة الإرهاب ​مارشال بيلينغسلي​ عن الإشادة بهم، والتوصية بحفظ مناصبهم، والتحذير من المسّ بشعرة منهم في مناسبة وغير مناسبة.

الهدف الاميركي الثاني هو تحميل حزب الله مسؤولية هذه الأزمة التي لم يشارك الحزب فيها بتاتًا، بل هناك عتبٌ من أوساط كثيرة، من إنه أشاح ببصره عن مقاربتها بشكل لا يوازي اهتمامه بالدفاع عن البلد والمنطقة والإنسان، وحفظ المقاومة، بل بوتيرة لم تكن عالية لاعتبارات داخلية وسياسية وطائفية ومذهبية عديدة، ولكن المشكلة تكمن في أنّ النتائج تصب في المكانعينه، وهو إخضاع المجتمع اللبناني بشكل عام،والمقاوم بشكل خاص عبر التجويع مرة، وطلب الهجرة للشباب، واليأس من القضايا السياسية الكبيرة مرة أخرى.

لذا، فإنّ إصرار السيد نصرالله في الخطاب المهم، على نقد الرؤية الاقتصادية للوضع الداخلي، بعدما حصل اطمئنان لالتفاف معظم الطبقة السياسية حول أحقية المقاومة في الدفاع عن لبنان في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية، تحمل أملًا للبنانيين يكمن في أنّ اهتمام حزب الله بالوضع الاقتصادي الداخلي قد يتسلل إلى مرتبة متقدمة، يطرح فيها رؤيته الاقتصادية، ويدافع عنها في وجه الكثير من المزورين والمتربصين الذين يهربون من تقديم الحلول الواضحة،ويخدمون المشروع الأميركي في لبنان والمنطقة عن قصد في كثير من الأحيان، وعبر تقديم مصالحهم الشخصية في أحيان أخرى.