ثمَّة ظاهرةٌ في ​لبنان​، لا وجود لها في كلِّ دول العالم، وعنَيْنا بها انْطلاق أَكثر من تظاهرةٍ، في مطالب أَساسًا واحدةٍ، ولكنَّ شيطان التَّفاصيل يلعب لعبته فيها!... فقد أَقفل الأُسبوع السِّياسيُّ الأَحد الماضي، بتظاهرةٍ حاشدةٍ إِلى "قصر الشَّعب" في ​بعبدا​، بدعوةٍ من "التيَّار الوطنيِّ الحرِّ"، دعمًا لرئيس الجمهوريَّة العماد ​ميشال عون​، وسعيه الدَّؤوب إِلى الإِصلاح و​مكافحة الفساد​. وقبلها انطلقت مسيرة تأْييدٍ سيّارةٌ، لأَنصار رئيس الحكومة المُستقيلة ​سعد الحريري​، وإِنْ تجاهلت المواقف فيها، مسألة ​محاربة الفساد​، الَّتي كانت أَساسًا محور انطلاق الحراك الشَّعبيِّ في 17 تشرين الأَوَّل الماضي، في عددٍ من المناطق اللُّبنانيَّة، بدءًا من العاصمة، ومرورًا بالشَّمال والجنوب والبقاع... ولكنَّ السُّؤَال البديهيَّ: إِذا كانت كلُّ هذه التَّظاهرات تدعو إِلى المطلب نفسه: استرداد الأَموال المنهوبة، فلماذا هذا التَّشرذم المطلبيُّ المتجلِّي في "حمَّى التَّظاهر"؟، وكيف السَّبيل إِلى التَّوحُّد تحت راية التَّركيز على الإِصلاح ووقف الفساد؟، وهل تهدف كلُّ هذه التَّظاهرات فعلاً إِلى الغاية المُعلنة نفسها؟.

فلو أَراد الحراك الشَّعبيُّ "أَكل العنب"، لكان تظاهر –ضمن برنامج تظاهراته على امتداد الوطن– دعمًا للقاضية ​غادة عون​، في فتحها باكورة الملفَّات العالقة، وقد دفعت الثَّمن من كيسها... غير أَنَّ هدف الحراك هو حتمًا أَبعد من العنب، يعني استهداف "النَّاطور"...

وأَمَّا أَنصار الرَّئيس الحريري، فقد هدفوا من خلال تحرُّكاتهم في الشَّارع، إِلى الهروب إِلى الأَمام، من خلال شدِّ العصب الطَّائفيِّ، وإِظهار رئيس الحكومة المستقيلة، المتَّهم بدوره في الفساد، بأَنَّه الضَّحيَّة اليتيمة للحراك المطلبيِّ، وفي ذلك تغييرٌ جذريٌّ لسياق الحراك!...

وأَمَّا الرَّئيس عون، الَّذي استوعب سريعًا هروب الحريري إِلى الأَمام، فلا يمكنه إِلاَّ الرُّكون إِلى المخارج الدُّستوريَّة والقانونيَّة، للخروج من عنق الزُّجاجة، فيما بادر رئيس "التيَّار" وزير الخارجيّة ​جبران باسيل​، بإِطلاق شعار "سريَّة، مُحاسبة، إِسترداد"، في إِشارةٍ إِلى خارطة طريقٍ لمُكافحة الفساد وصولاً إِلى استرداد الأَموال المنهوبة، تبدأُ برفع السريَّة المصرفيَّة عن كلِّ العاملين في الشَّأْن العامِّ، وإِجراء مُقارنة بين الوضع الماليِّ لهؤلاء قبل تبوُّئهم المسؤوليَّة، وما بعد ذلك (وهنا تصحُّ عبارة "كلُّن يعني كلُّن")، ومن ثمَّ محاسبة مَن تثبت إِدانته بين هؤلاء، وبناءً على ذلك تُستردُّ الأَموال المنهوبة!.

كما وأَثبت "التيَّار"، أَنَّه أَكثر "الثُّوَّار" إِدراكًا للسَّبيل الأَسلم والأَكثر قانونيَّةً وعدالةً، إلى تحقيق الهدف المنشود!. وبالتَّالي، إِذا كان الحراك كثير التَّشعُّبات والأَجنحة، وقد تداخلت فيه الأَحزاب ففخَّخته من الدَّاخل، فإنَّ الصَّادقين فيه والبعيدين عن النيَّات المشبوهة والأَجندات المستورة، سينضمُّون إِلى خارطة الطَّريق "العونيَّة"، لأَنَّ هدفهم الوصول إِلى حقوقهم الوطنيَّة الَّتي لا لبس فيها، أَي أَكل العنب لا قتل النَّاطور...

كما وأَنَّ ​استقالة الحريري​ قد أَطلقت يد باسيل، وأَخرجته من القمقم، على اعتبار أَنَّ رئيس التيَّار الوزير، كان تحت سقف التَّضامن الوزاري المُعيق لمكافحة الفساد، وقد بات –بعد استقالة الحكومة– حرًّا طليقًا، في رحاب المطالب الشَّعبيَّة المحقَّة والمُزمنة في آنٍ، ولو أَنَّه يبقى، في مُطلق الأَحوال، تحت سقف الدُّستور والقانون.

وأَمَّا راكبو موجة التَّظاهرات من الأَحزاب المنضوي تحت لوائها فاسدون، فقد سقطت ورقة التِّينة الَّتي لطالما غطَّت فسادها، وإِن تسنَّت للفاسدين في الفترة الأَخيرة، العودة لحينٍ إِلى لعبة الشَّارع.