لست ببعيدٍ عمّا حَدث ويحدث في ​لبنان​ي الغالي، فقد حَمَلته في صلاتي كما أحمِله دوماً في قلبي، لكن، لستُ بصَدَد الدخول في متاهات السياسات الزائفة، رغم تأكيدي على أحقيّة المُطالبة بعَيشٍ كريمٍ يَرعى للإنسان حُقوقه الأساسية.

وعودة إلى بدء، فهو عنوان واقعي في يوميات عالمنا، استَهلَّينا فيه شَهرنا الحاضر، إذ هلَّ علينا بعيدِ جميع القدّيسين، وَهُم رمزُ ​الحياة​ في كُليّتها، وفي اليوم الثاني منه، تَذكّرنا الموتى، فَرَفعنا ​الصلاة​ راحةً لنفوسهم، علَّ صلاتنا تشفع لهم عند ربّ الرحمة، فتُنجّيهم وتعبرُ بهم إلى جِوار القدّيسين والأبرار.

وَواقعيّة المُتضادّات، تَكمن في إلتزامها العيشَ مُتحاذيةً، وكأنّ بها إنسجامٌ كي لا أقول إتّفاقٌ وتوافقٌ، رُغم معناها وتعريفها في المُنجد بأنّها التي لا تجتمع أبداً. هذا في المفهوم البشري، أمّا في تاريخ الخلاص، وبَعد أن انكسَرَت شَوكة الموت، وانهزَمَت غَلبة الجحيم (1 كو 15، 55)، بقيامة ربِّ الحياة، تحوّل الموت إلى مَعبر مِن هذه الفانية، ولو طال البقاءُ فيها ولذّت يوميّاتِه، إلى الحياة الأبديّة وهي الأزليّةُ في تعريفها، إذ لا تُضاهيها سِنِيّ هذا الكون الزائلة، فنَقرأ في الكتاب أنّ نَظير ألف عام عند الرب كيومِ بارحة الغابر.

وفي تأمّلنا اليوم، بين المُتضادَّان، الحياةُ والموت، نَجِدُ الأولى تَصبو نحو الأبديّة، أي ترقى عائدة إلى مَصدر وُجودها ومنبع كَينونتها، فتأتي الثانية لِتَحِدَّ من هذا الطموح، فتسعى جاهدة لأن تُوقف الزمن، فَتَشلَّ عزيمة الحياة، وتُنهي مسيرتها. نَعَم فمَصدر الحياة ومُبدعها هو الرب الإله، الخالق من العَدَم، وجابِل الإنسان من تُراب، والنافخُ في أنفه نسمةَ الحياة (تك 2، 7)، فَحَبَاهُ إيّاها لتَكونَ له وَتفيض، وأتاه بِعونٍ له، إمرأةً من صُلبه، وباركهما الرب وقال لهم: "أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ، وَأَخْضِعُوهَا" (تك 1، 28).

وكان لَه راعياً، أميناً يقوده إلى مراعٍ خَصبةٍ، ويورِده إلى مِياه الراحة، ويَهديه سَبيل البرّ، ويُعزّيه بعصاه وعكّازه (راجع مز 22)، ورغم ذلك ضلّ الطريق.

وبدلاً من الإعتراف بعَطية الحياة، نَجدُ الإنسان يَميل لِجَهله بالرب، فَيَختار الموت نصيباً له ولِخَلفه من بعده. فالحياة الأبديّة، "هي أن يَعرِفوك، أنت الإله الحقيقي وَحدَك، و​يسوع المسيح​ الذي أرسَلْته". ومعرفتنا به تتلخّص بكلمة أوحاها الربّ إلى يوحنا، فكتَبَ في رسالته الأولى بأن "الله محبّة" (1 يوحنا 4، والذي أرسله أفصَحَ عن نفسه فأحبَّنا لأعظم حدٍّ، إذ بَذل نَفسَه لأجلنا (يو 15، 13). وبِهذا نغدو أشباهه فننتقل من الموت إلى الحياة، عندما نعيشُ الحبّ مع إخوتنا (1 يوحنا 3، 14).

غريبٌ عجيبٌ أمر الإنسان، وهو الكامل في خَلقه، جَمَعَ المُتضادّات في طبيعتِهِ، وفي مُيولِهِ، وفي عَيشِهِ اليَومي، يَصبو إلى الكمال حيثُ تَكمُن دعوتُه، لكنّه يعيشُ النَواقِصَ ويفرحُ، وبَدلَ السعي نحو المدى الواسع، يَتَقَوقع في مَحدوديَّته. يطمحُ الى الخير الذي يُريد، والشرّ الذي لا يريد، إيّاه يفعل. وكأنّ القول، الذي يعرِّفه باجتماعِ إنسٍ وإنس ليغدو "إنسان"، يحمِلُ بداخلِه الإزدواجية في كلّ شيئ.

فَمَع القدّيس فرنسيس أُصلي بأن يستعملني الرّب أداةً لسلامه، فَأسعى للخيرِ دوماً وأنكُر الشرّ في المتضادات، فأضعَ الحبَّ حيثُ البُغض، والمغفرةَ حيثُ الإساءة، والاتفاقَ حيثُ الخلاف، والحقيقةَ حيثُ الضلال، والإيمانَ حيثُ الشك، والرجاءَ حيثُ اليأسْ، والنورَ حيثُ الظُلمة، والفرحَ حيثُ الكآبة، قدرني يا رب ، على السعي إلى أن اعزِّي لا إلى ان أُعزَّى ، وإلى ان أَفهَمَ لا إلى ان أُفهَم ، وإلى ان أُحِبّ لا إلى أن أُحَبَّ. وذلك ، لان من يُعطي يأخذ ، ومن يبذل يَجِدْ ، ومن يصفح يَنَل الصفح ، ومن يموت يولَد في الحياة الأبدية. آمين.