بلغ سقف الكباش بين رئيس حُكومة ​تصريف الأعمال​، رئيس "تيّار المُستقبل" ​سعد الحريري​، ووزير الخارجية والمُغتربين في الحُكومة المُستقيلة، رئيس "التيّار الوطني الحُرّ" ​جبران باسيل​، حدّ طرح ورقة الإنسحاب كليًا من الحُكومة والحُكم، في الوقت الذي يجهد فيه "​الثنائي الشيعي​" لإشراك الجميع من دون إستثناء في السُلطة، إنطلاقًا من الواقعيّة السياسيّة من جهة، وإنطلاقًا من الإصرار على أن تتحمّل كل الأطراف مسؤوليّة مُعالجة الأوضاع الحالية المُتدهورة، من جهة أخرى. لكن وعلى الرغم من المواقف الطنّانة، يخشى كل من الحريري وباسيل الكثير من الأمور في حال الإنسحاب كليًا من السُلطة؟.

بالنسبة إلى رئيس حُكومة تصريف الأعمال الذي يرفع سقف شروط تفاوضه عاليًا، مُستفيدًا من ورقة الضُغوط الخارجيّة السياسيّة والإقتصاديّة والماليّة، فهو يدرك أنّ عودته إلى السُلطة وفق شروط خُصومه، سيجعله عاجزًا ومُكبّلاً، مع تحميله الجزء الأكبر من المسؤوليّة، كونه رئيس السُلطة التنفيذيّة. أمّا في حال الخروج كليًا من السُلطة، يخشى الحريري مجموعة من الأمور، أبرزها:

أوّلاً: لن يكون قادرًا على توفير الحماية السياسيّة التي كان يُؤمّنها لكل من حاكم مصرف ​لبنان​ ​رياض سلامة​، ولمدير عام شركة "​طيران الشرق الأوسط​" ​محمد الحوت​، ولمجموعة من كبار المسؤولين الآخرين، وكذلك لمدير عام ​قوى الأمن الداخلي​، ​اللواء​ عماد عُثمان، ولشعبة المعلومات، إلخ. وهو يخشى من الإنتقام السياسي تارة، والإنتقام الشخصي تارة أخرى، والذي قد يطال العديد من الجهات المَحسوبة عليه، تحت ستار التجديد وإصلاح الإدارة، ومُحاربة ​الفساد​ ومُعاقبة الفاسدين.

ثانيًا: يُقدّر عدد مراكز الفئة الأولى التي ستفرغ بحلول نهاية العام الجاري، بما لا يقلّ عن 43 وظيفة من أصل 160، يُضاف إليها نحو 240 مركزًا من وظائف الفئة الثانية (أي رئيس مصلحة) التي يبلغ عددها 940 وظيفة تقريبًا، إضافة إلى مئات مراكز الفئة الثالثة (أي رئيس دائرة) من أصل 1100 وظيفة تقريبًا. ومن بين مهام الحُكومة المُقبلة، القيام بملء الشواغر وبتجديد الإدارة، وبالتالي، يخشى الحريري أن تأتي ​التعيينات​ المُرتقبة، في ظلّ عدم وُجوده كرئيس للحكومة، وكذلك في ظلّ مُوازين قوى لا تصبّ في صالحه، على حساب الشخصيّات المَحسوبة عليه أو على خطّه السياسي على الأقلّ، ولصالح قوى وتيّارات وشخصيّات سياسيّة مُنافسة.

ثالثًا: يخشى أن يتم تحميل "الحريريّة السياسيّة" مسؤوليّة ما بلغه الوضع الداخلي من تدهور إقتصادي ومالي ومعيشي، مع ما يعنيه هذا التوجّه من فُقدان حتمي للمزيد من المُناصرين وللمُؤيّدين، وبالتالي من إضعاف لدور "تيّار المُستقبل" ولنُفوذه على الساحتين السنّية أوّلاً، والوطنيّة ثانيًا.

رابعًا: يخشى أن تتخذ الحُكومة مواقف سياسيّة كان يُعارضها "تيّار المُستقبل" ويقف بوجهها، بدءًا بمسألة إعادة ​النازحين​ السُوريّين بالتنسيق مع النظام السُوري، وُصولاً إلى مسألة تعديل أولويّة علاقات لبنان العربيّة والدوليّة على حساب التموضع الذي كان يحرص الحريري على الدفاع عنه.

بالإنتقال إلى رئيس "التيّار الوطني الحُرّ"، فإنّ مُطالباته السابقة بالحُصول على ثلث المناصب الحُكوميّة، أي الثلث "الضامن" أو "المُعطّل" (مع إحتساب حصّة رئيس الجُمهوريّة ضُمنها)، بين وزراء سياسيّين وآخرين تكنوقراط، كانت إصطدمت بمُعارضة شديدة من جانب الحريري، شأنها شأن مطالب أخرى، منها مُرتبط بالحُصول على حقائب مُعيّنة. وهو لذلك رفع سقف شُروطه التفاوضيّة، وشهر ورقة رفض تسمية الحريري لتشكيل الحُكومة، وحتى ورقة الإنسحاب كليًا من الحُكومة، تحت شعار أن يتحمّل من أوصل البلاد إلى هذا الدرك، المسؤوليّة الكاملة عمّا حصل. والأكيد أنّ وزير الخارجية في حُكومة تصريف الأعمال، لا يُريد أن تكون مُشاركته في الحُكومة المُقبلة مُتواضعة وعبر وزراء تكنوقراط فقط، لأنّه في النهاية سيتحمّل مسؤوليّة الأوضاع، باعتبار أنّ العهد الرئاسي كلّه مَحسوب على "التيّار الوطني الحُرّ" وعلى الرئيس العماد ​ميشال عون​، بغضّ النظر عن موضوع الصلاحيّات. لكن في الوقت عينه، يخشى باسيل في حال الخروج من السُلطة، مجموعة من الأمور، أبرزها:

أوّلاً: يخشى تحميله مسؤوليّة ما آلت إليه الأوضاع منذ مُشاركته في السُلطة وُصولاً إلى تفجّر إنتفاضة 17 تشرين الأوّل، وبالتالي العمل أكثر فأكثر من قبل خُصومه السياسيّين، على مُحاولة قطع الطريق على طُموحه الرئاسي، في إنتخابات العام 2022 الرئاسيّة.

ثانيًا: يخشى السعي لتكبيل يديه، ومنعه من المُشاركة الفاعلة في إدارة شؤون السُلطة، وفي مُعالجة مُختلف الملفّات المَطروحة على طاولة البحث-كما كان يحصل في السابق، إضافة إلى إضعاف حُضوره على الساحة الدوليّة من خلال إبعاده عن وزارة الخارجيّة والمُغتربين.

ثالثًا: على الرغم من أنّ موقع رئيس الجُمهوريّة ثابت، ووُجود "التيّار" في ​الدولة​ مُتشعّب عبر أكثر من مركز سياسي وأمني وإداري، وعلى الرغم من حُضور "​حزب الله​" في الحُكومة المُقبلة، يخشى الوزير باسيل أن يُضعف خروجه من السُلطة مع تيّاره، نُفوذ "التيّار الوطني الحُرّ" ككل ضُمن التركيبة اللبنانيّة.

في الخُلاصة، وعلى الرغم من المَواقف الطنّانة التي تصدر أو تُسرّب عن رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعن وزير الخارجية في الحُكومة المُستقيلة، فإنّها تُصنّف في سياق رفع شروط التفاوض، على أن يتمّ في مرحلة لاحقة خفض هذه الشُروط والمطالب، عندما يحين موعد التسوية النهاية. فالأنظار تبقى مُوجّهة إلى موقف أمين عام "حزب الله" السيّد ​حسن نصر الله​ المُنتظر عصر اليوم، علمًا أنّ "الثُنائي الشيعي" لا يزال مُتمسكًا بأن تكون الحُكومة المُقبلة جامعة، وأن تضمّ في صُفوفها تيّاري "المُستقبل" و"الوطني الحُرّ"، لأنّ إنقاذ لبنان هي مسؤوليّة الجميع. وفي الإنتظار، وفي ظلّ تصاعد عمليّة "عض الأصابع" بين القوى السياسيّة الداخليّة، والمُناورات الكلاميّة، الأكيد أنّ ​الشعب اللبناني​ هو الذي يدفع الثمن الأكبر من معيشته، بفعل عدم المُسارعة إلى تشكيل حُكومة إنقاذ تبدأ العمل ليل نهار على إنقاذ ما يُمكن إنقاذه!.