بعد أكثر من ثلاثة أعوام من التردد والإنقسامات التي عاشتها ​بريطانيا​ والمتعلقة بالإنخراط في ​الإتحاد الأوروبي​ ومستقبله قال الشعب البريطاني كلمته وأعطى الصلاحية المطلقة ل​حزب المحافظين​ لتنفيذ إتفاق خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي ( ​بريكست​ Brexit ) والذي سبق أن وافق عليه ٥٢٪؜ من هذا الشعب في الإستفتاء الذي جرى عام ٢٠١٦ وبقي مترنحا ولم يحقق أي تقدم عملي منذ ذلك الوقت .

الإنتصار الساحق الذي حققه حزب المحافظين في ​الإنتخابات البرلمانية​ البريطانية المبكرة التي جرت في ١٢ كانون الأول ٢٠١٩ ، وأمّن من خلاله الأغلبية المريحة ، من شأنه السماح لزعيمه ​بوريس جونسون​ بأن ينفذ تعهده الذي قامت عليه حملته الإنتخابية والمتمثل بتطبيق بريكست في موعده بتاريخ ٣١ كانون الثاني ٢٠٢٠ متسلحا بصلابة في التعامل مع هذه ​الأزمة​ ، الأمر الذي عبّر عنه جونسون عندما أعلن أن "هذا التفويض الجديد القوي سيمنح ​الحكومة​ ​الجديدة​ فرصة إحترام رأي الإرادة الديمقراطية للشعب البريطاني".

هذه الإرادة التي بات بإمكان جونسون التسلح بها جاءت على حساب ​حزب العمال​ الذي مُنيَ بأسوأ خسارة له منذ عقود وانتُزعت منه دوائر كان يسيطر عليها وتشمل معاقل له ، وذلك على الرغم من تعهد زعيمه جيريمي كوريين خلال الحملات الإنتخابية بزيادة الإنفاق العام وتأميم الخدمات الرئيسية وفرض ضرائب على الأغنياء وإجراء استفتاء آخر على ​البريكست​ . ولكن على الرغم من أهمية هذه العناوين ، إلا أنه يبدو واضحا أن الأولويات قد تبدلت بالنسبة للشعب البريطاني ليصبح البريكست هو الأولوية.

وإذا كانت نتائج هذه الإنتخابات من شأنها أن تضع حدا للإنقسامات الداخلية وتوضح صورة التحديات التي تعيشها بريطانيا ومستقبلها ، إلا أن نتائجها الأهم ستكون على المستوى الأوروبي والدولي كونها خلطت الأوراق تجاه قضايا الإتحاد الأوروبي والمسائل المتعلقة به وما ينتج عن ذلك من توجه نحو إبرام إتفاقات تجارية مع ​الولايات المتحدة​ الأميركية .

فعلى الرغم من التصريحات الصادرة عن الإتحاد الأوروبي بعد صدور نتائج الإنتخابات والتي أشار فيها إلى "الاستعداد" للتفاوض بشأن العلاقة المستقبلية مع بريطانيا ، وتصريحات ​المفوضية الأوروبية​ حول "إعادة بناء" العلاقات مع لندن بعد فوز جونسون ، يبدو أن الأخير يعتزم طرح إتفاق الطلاق الذي تفاوض عليه سابقا مع الإتحاد الأوروبي على البرلمان الجديد قبل ​عيد الميلاد​ المقبل وذلك بغية تنفيذ بريكست قبل موعده في ٣١ كانون الثاني بعدما فشل الأمر ثلاث مرات سابقا.

يبدو من الواضح أن التوجه سيكون لمصلحة مصادقة ​البرلمان البريطاني​ على البريكست لكن ذلك لا يعني خروجا فوريا ، فإقرار القانون يعني الإنتقال إلى مرحلة معقدة من المفاوضات التجارية مع الإتحاد الإتحاد الأوروبي لضمان وصول السلع والخدمات البريطانية إليه دون عراقيل لأن بريطانيا ستكون خارج الإتحاد الجمركي والسوق الأوروبية الموحدة كما ستنتهي الولاية القضائية للمحكمة الأوروبية عليها ، وبحال التوصل إلى إتفاق بنهاية حزيران ٢٠٢٠ فينبغي المصادقة عليه وهذه مسألة تستغرق عدة أشهر . أما عدم التوصل إلى مثل هذا الإتفاق فسيعني خروج بريطانيا بشكل منفرد من الإتحاد بحلول نهاية العام ٢٠٢٠.

أن هذا الإستعجال والإصرار من البريطانيين لا يمكن فهمه سوى من زاويتين أساسيتين :

الأولى تتمثل بعدم الرغبة البريطانية بالإنزلاق في مشاريع الإتحاد مع الأوروبيين وذلك رغم الإستفادة الإقتصادية والتجارية التي تتحصل عليها وما يعنيه خروجها من المخاطرة بخروج الإستثمارات وإنتقال رؤوس الأموال منها وصعوبة معالجتها لقضايا ​الهجرة​ والتنقل وتصريف الإنتاج الزراعي والمسألة الإيرلاندية ...

أما الثانية فتتمثل بالتوجه البريطاني نحو شرق الأطلسي والتطلع إلى توقيع إتفاقيات للتجارة مع ​الولايات المتحدة الأميركية​ بعد التحرر من القيود الأوروبية ، الأمر الذي عبّر عنه الرئيس الأميركي ​دونالد ترامب​ خلال تهنئته ل​رئيس الوزراء البريطاني​ عندما أعلن أن " بريطانيا والولايات المتحدة ستصبحان الآن حرّتين في إبرام إتفاق تجاري جديد وهائل بعد بريكست ".