عندما طلب رئيس الحكومة حسّان دياب "مهلة سماح" من اللبنانيين، قبل اندلاع أزمة "​كورونا​"، لم يكن يتوقّع أن يتجاوب معه كثيرون، على رأسهم ​الحراك الشعبي​ّ الذي اعترض على طريقة ​تشكيل الحكومة​، غير المطابقة للمواصفات التي كان قد وضعها، إلى جانب قوى المعارضة التي صنّفت الحكومة تحت "لونٍ واحدٍ"، مُناقضٍ لنهجها وخياراتها.

فوجئ دياب بحصوله على مُراده، ولو أنّ الواقع الصحّي المستجِدّ لعب دوراً أساسياً في تحقيق "التضامن" مع حكومته. "انكفأ" الحراك الشعبيّ، وابتعد موقتاً عن الصورة، ومثله فعلت قوى المعارضة، ولو اختلفت "تكتيكاتها"، بين "الاشتراكي" الذي اختار المهادنة حتى إشعارٍ آخر، و"القوات" الذي ابتدع منطق التعامل "على القطعة"، و"المستقبل" الذي فتح معركةً مع باسيل، محيّداً باقي الخصوم.

لكنّ ما لم يتوقّعه دياب أن ينتج "اهتزاز" حكومته عن "ظلم" الأقربين، إن جاز التعبير، في إشارةٍ إلى "عرّابي" الحكومة، والمشاركين فيها، مباشرةً أو مواربةً، وهو ما أوحى به تلويح بعض الفرقاء بـ "تعليق المشاركة" في الحكومة، عند "المطبّ" الأول، والذي يؤكد معنيّون أنّه كاد يصبح أمراً واقعاً لولا "التدخّلات" رفيعة المستوى، التي أعادت الحكومة إلى "صراطها المستقيم"، ولو نسبياً...

"كمالة عدد"؟!

"سنعلّق مشاركتنا في الحكومة". عبارةٌ وردت بحرفيّتها في أسبوعٍ واحدٍ، بشكلٍ أو بآخر، على لسان طرفيْن أساسيَّيْن في الحكومة، هما رئيس مجلس النواب ​نبيه بري​ ورئيس تيار "المردة" ​سليمان فرنجية​، على خلفيّة ملفّيْن اعتُبِرا "خلافيَّيْن"، بدءاً من ملفّ ​التعيينات​ في حاكميّة ​مصرف لبنان​، وصولاً إلى إعادة المغتربين اللبنانيين في زمن "كورونا"، وسط المخاطر المتأتية عن تفشّي الداء في مختلف أصقاع العالم.

وفي حين بدا التلويح بالانسحاب من الحكومة وكأنّه "موضة الموسم"، أو آخر "بدعة" توصّل إليها الفرقاء السياسيّون لتحقيق غاياتهم، فإنّ الأمر بدا مُجدياً بشكل أو بآخر، فالتعيينات أرجئت أسبوعاً، بغية الوصول إلى "توافقٍ" ما، تحت ستار الحصول على السيَر الذاتيّة للمرشحين، في حين بدأ العمل على وضع آليّةٍ لعودةٍ "آمنة" للمغتربين، بـ "مباركة" من رئيس الحكومة، الذي لم يجد "حَرَجاً" بتغيير موقفه في أقلّ من أربعٍ وعشرين ساعة، تحت "ضغط" موقف بري، ومن التحقوا به متأخّرين.

وإذا كانت "حيلة" التهديد بالخروج من الحكومة فعلت فِعلها في الجسم الحكوميّ، فإنّ ثمّة من يبرّرها بالقول إنّ للّاجئين إليها "مبرّراتهم"، فتيار "المردة" مثلاً يتصرّف على أساس أنّه ليس "كمالة عدد" في الحكومة، وبالتالي فإنّ القفز فوقه في التعيينات لا يمكن أن يكون مقبولاً، خصوصاً أنّ دخوله إلى الحكومة، بشروطه، جاء لتغطية النقص الذي أحدثته "مقاطعة" كلّ من "القوات" و"الكتائب". ولذلك، يرفض تيار "المردة" ما يعتبره "استئثاراً" من جانب "​التيار الوطني الحر​" بالتعيينات، في ظلّ التسريبات عن "طبخها" ثنائياً بين كلّ من دياب والوزير السابق جبران باسيل.

أما رئيس مجلس النواب نبيه بري، فله حساباته أيضاً، وهي حساباتٌ لا ترتبط حصراً بالضرورة بموضوع إعادة المغتربين، الذي ذكّرت السجالات على خطّه بحماوة "الحملات الانتخابية" التي خيضت باسمهم في الانتخابات البرلمانية الأخيرة. ويقول العارفون إنّ الضغط الذي مارسه بري بعنوان المغتربين على الحكومة، أشبه بـ "جرس إنذار" أراد قرعه، لتذكير المعنيّين بأنّه لن يكون "شاهد زور"، علماً أنّ ثمّة من يقول إنّ بري يقف خلف كل "الهزات الارتدادية" التي طاولت الحكومة الأسبوع الماضي، من ملف "الكابتال كونترول" إلى التعيينات، وصولاً إلى المغتربين، ليوجّه عبرها رسالةً، يبدو أنّ دياب تلقّفها.

"القناع ساقط"!

وبين مواقف بري وفرنجية، وردود دياب المتلقّفة، والتدخّلات السياسية التي دخلت على الخط، خصوصاً عبر "الوساطات" التي قيل إنّ "حزب الله" اجتهد فيها، على وقع الخطاب الأخير لأمينه العام ​السيد حسن نصر الله​، فإنّ ثمّة من قدّم مقاربةً مختلفة لما جرى، عنوانها أنّ "القناع سقط" عن الحكومة، التي "فضحت" نفسها بنفسها، بعدما حاولت تصوير نفسها وكأنّها جاءت من رحم "الحراك الشعبيّ"، وأنّ أعضاءها هم من الاختصاصيّين "المستقلّين"، كما أصرّ رئيسها حسّان دياب على التكرار.

ومع أنّ هذه المقولة تحتمل الكثير من الصحّة، باعتبار أنّ القوى السياسية لم تتوانَ عن التهديد بالانسحاب من حكومةٍ كانت تدّعي أنّها لا تشارك فيها بشكلٍ مباشرٍ، فإنّ الكثير من المؤشرات الأخرى تدحض مثل هذه المقولة، وتذهب إلى اعتبار "القناع ساقطاً" منذ ولادة الحكومة، علماً أنّ المُدقّق بطريقة تشكيلها، بدءاً من تسمية رئيسها بأصواتٍ فريقٍ نيابيّ محدَّد، وصولاً إلى "تقاسم" حصصها بين مكوّنات هذا الفريق، يدرك أنّها ليست حكومة "مستقلّين"، ولو حاول بعض "الغيارى" تصويرها بعكس صورتها الحقيقيّة، علماً أنّ اللبنانيين يذكرون جيّداً كيف أنّ تيار "المردة" مثلاً اشترط الدخول إلى الحكومة بحقيبتين، وهو ما تحقّق له في نهاية المطاف.

وإذا كان هناك في "التيار الوطني الحر" مثلاً، من رأى في الجدال حول التعيينات "استهدافاً" متعمّداً له، بل ذهب البعض إلى حدّ القول إنّ رئيس البرلمان يخوض هذه المعركة "بالوكالة" عن أصدقائه في المعارضة، وتحديداً "​تيار المستقبل​" و"​الحزب التقدمي الاشتراكي​"، فإنّ هذا الأمر أيضاً لا يختزل بين طيّاته "سقوطاً للقناع" في قاموس "التيار"، الذي يلفت الدائرون في فلكه إلى أنّ هذا "التصنيف" كان واضحاً منذ اليوم الأول، وأنّ "معارضة الداخل" كشّرت عن أنيابها منذ ما قبل الاجتماع الأول للحكومة.

ولعلّ "الحروب الافتراضية" التي خاضها البعض في سبيل التقليص من حجم حصّة "التيار" في الحكومة ماثلة للأذهان، مع أنّ "الوطني الحر"، وفق رواية المحسوبين عليه، حرص على تسمية وزراء مستقلّين بشكلٍأو بآخر، وبينهم من يُحسَبون حتى على "الحراك الشعبي" الذي لم يتوانَ عن تركيز هجومه في فترةٍ من الفترات على "التيار" دون غيره من القوى السياسيّة، بعكس ممارسة أفرقاء آخرين أصرّوا على "التمثيل الحزبي"، وأبدوا علناً "امتعاضهم" من "الفيتو" الموضوع على المشاركة الحزبية، بل ذهبوا إلى حدّ ابتداع منطق "قصّ البطاقة الحزبية" قبل التسمية.

ليس وقت مناكفات!

لا شكّ أنّ الحديث عن "سقوطٍ للقناع" عن الحكومة يحمل بين طيّاته مبالغاتٍ ما بعدها مبالغة، إذ إنّ مثل هذا "القناع" لم يكن موجوداً في الأصل، إلا في "مخيّلة" من يصرّ على عدم رؤية الحقيقة، مهما كانت ساطعة أمامه.

فالحكومة التي تشكّلت لم تكن حكومة "مستقلّين"، بدليل السجالات التي وقعت على خطّها، وهي لم تكن "فريدة" من نوعها، إذ إنّ "المحاصصة" التي تحكّمت بالحكومات المتعاقبة منذ الطائف، تحكّمت بها أيضاً، من حيث تقاسم "المغانم" الوزارية حزبياً وطائفياً ومناطقياً، على حدّ سواء.

وإذا كان من النتائج البديهيّة لما سبق انعدام "التضامن الوزاريّ" داخل الحكومة، أسوةً بغيرها من الحكومات التي انقسمت إلى "جبهات"، بينها الموالي وبينها المعارض، فإنّ الظروف التي يمرّ بها لبنان اليوم، مالياً وصحياً واجتماعياً، يجب أن تشكّل الأولوية التي لا تعلو عليها أولوية اليوم.

ليس الوقت وقت مناكفات وسجالات، ولا وقت مزايدات، لا من بوّابة المغتربين ولا التعيينات ولا غيرها، بل هو وقت تضامن، ولو بالحدّ الأدنى المُتاح...