في غمرة التحدّيات والأزمات التي يشهدها لبنان هذه الأيام، وعلى وقع إقرار الخطة المالية الاقتصادية التي طال انتظارها، قد يكون آخر ما توقّعه ​رئيس الجمهورية​ ​ميشال عون​ أن يتحوّل لقاء وطنيّ "شكليّ" دعا إلى انعقاده، أسوةً بلقاءاتٍ مماثلةٍ سابقة، إلى "الحدث"، وأن يتسبّب بكباشٍ "طائفي" جديد، عنوانه "ضرب الصلاحيّات".

لكنّ هذا ما حصل، بعدما قرّرت كتلة "المستقبل" رفع سقف مواجهتها للعهد والحكومة معاً، عبر "مقاطعة" لقاء بعبدا، لاعتباراتٍ عديدة اختارت الكتلة، لأسبابٍ مجهولة، أن تغلّب عليها هاجس "النظام الرئاسي" الذي اعتبرت أنّ لقاء بعبدا يكرّسه في مكانٍ ما، الأمر الذي يشكّل "ضرباً لصلاحيّات ​رئاسة الحكومة​"، وفق ما جاء في بيانها.

وفي وقتٍ يبدو أنّ هذه اللازمة باتت بمثابة "موضة الموسم"، بعدما تكرّرت الأسبوع الماضي، في أكثر من بيان للكتلة "الزرقاء" وما يتفرّع عنها، على غرار "نادي" رؤساء الحكومات السابقين، ثمّة من يسأل عن "محلّها من الإعراب" في مقاربة لقاء بعبدا، الذي لن يكون الأول من نوعه، ولا الأخير على الأرجح...

دغدغة للمشاعر؟!

لا شكّ أنّ من حقّ رئيس الحكومة السابق ​سعد الحريري​، من خلال كتلة "المستقبل"، أن يقاطع لقاء بعبدا الوطنيّ المُنتظَر، وأن يوظّف هذه الخطوة في سياق "معركته" مع العهد الذي يتّهمه بـ"الانقلاب" عليه، بعد فضّ "​التسوية الرئاسية​" التي طبعت علاقتهما خلال السنوات الثلاث الماضية، ولو اعتُبِرت مثل هذه الخطوة "شعبويّة" في مكانٍ ما، أو بمثابة "بروباغندا" سعى من خلالها إلى "التفوّق" على شركائه في المعارضة، قبل "استدراجهم" إلى قواعده، إن نجح في ذلك.

وقد يكون لدى "المستقبل" الكثير من الأسباب الموجبة لمثل هذه "المقاطعة"، باعتبار أنّ اللقاء الشكليّ قد يكون من وجهة نظره، "لزوم ما لا يلزم"، خصوصاً أنّ الخطة الاقتصادية والمالية قد أقرّت، وبالتالي أنّ اللقاء ليس مخصّصاً للاستماع إلى آراء ​الكتل النيابية​ الموالية والمعارضة بها، والعمل بمقتضاها نتيجة ذلك، ما يُفقِده "الجوهر" الذي يفترض أن يقوم عليه، باعتبار أنّ "الاطّلاع" على مضمون الخطّة يمكن أن يحصل من خلال قنواتٍ أخرى، علماً أنّ المشاركة في اللقاء وحدها لا يفترض أن تمنح الخطة، تلقائياً، "الغطاء" الداخليّ الذي تخيّله البعض.

لكنّ "المستقبل" قفز فوق كلّ هذه "الحُجَج الموضوعيّة"، إن جاز التعبير، ولجأ إلى العزف على وتر "تكريس مفهوم النظام الرئاسي وضرب صلاحيّات رئاسة الحكومة"، في ما يفسّره البعض على أنّه "دغدغة للمشاعر" ليس إلا، لكنّها لا يمكن أن تمرّ من دون عواقب، خصوصاً في ضوء "الكباش السنّي المسيحي" الذي لاحت بوادره في الأفق خلال ساعاتٍ قليلةٍ، علماً أنّ كثيرين يرون أنّ الحريري دان نفسه بنفسه من خلال هذه الادّعاءات، باعتبار أنه سبق له أن "بارك" لقاءاتٍ مماثلة في ​قصر بعبدا​، كان آخرها اللقاء الاقتصاديّ الذي عقد في قصر بعبدا، لمناقشة خطّة الحكومة الاقتصادية، من دون أن يخرج أحدٌ يومها ليعتبر أنّ "المكان الطبيعيّ" لمثل هذا اللقاء هو المجلس النيابيّ حصراً.

فقد رونقه؟!

أبعد من ذلك، يذهب المدافعون عن رئيس الجمهورية، في وجه اعتراضات "المستقبل" وغيره، فيستهجنون "الهجمة" على المبادرة الرئاسية، ومحاولات إفراغها من مضمونها، إن جاز التعبير، ممّن كانوا يطالبون الرئيس أصلاً بالتحرّك، بل ممّن كانوا يدعون منذ فترةٍ طويلةٍ إلى عقد لقاءاتٍ حواريّةٍ في بعبدا، على غرار الحوار حول ​الاستراتيجية الدفاعية​ الذي كان يرعاه الرئيس السابق ​ميشال سليمان​، والذي أنتج "​إعلان بعبدا​" الذي "يتباهى" به هؤلاء المعترضون بوصفه "إنجازاً"، على رغم تحوّله إلى مادّة للتندّر والسخرية من قبل آخرين، من المحسوبين على "العهد" خصوصاً.

لكن، وبمُعزَلٍ عن "الكباش" الذي يتوقّع أن يستمرّ فصولاً في الساعات المقبلة، ثمّة من يرى أنّ اللقاء الحواريّ في بعبدا فقد "رونقه" منذ ما قبل إعلان المقاطعة "المستقبليّة" له، خصوصاً إذا ما تحوّل في مكانٍ ما إلى ملتقى لـ"ممثّلين" عن رؤساء الكتل، في ضوء "الاعتذارات" المتتالية عن الحضور "الشخصيّ" لمُعظم رؤساء الكتل النيابية، باستثناء البعض من الدائرين في فلك "العهد"، والمحسوبين على الحكومة الحاليّة، وهو ما لا يرتقي بطبيعة الأحوال إلى الأهداف الموضوعة لمثل هذا اللقاء، والذي أريد منه أن يشكّل "الانطلاقة الفعلية" للخطة الاقتصادية، التي وصفتها الأوساط الرئاسية بـ"التاريخية".

لكنّ فقدان اللقاء لرونقه لا يعني تسجيل هدفٍ في مرمى رئيس الجمهورية، برأي المقرّبين منه، ولو أنّ الاعتراضات على اللقاء وصلت إلى حدّ النقاش في "الجدوى" منه، طالما أنّ ما أقرّ قد أقرّ، وأنّ نوايا التعديل غير متوافرة أصلاً، إذ إنّ هؤلاء يعتقدون أنّ عون هو الذي سجّل الأهداف في مرمى الآخرين، سواء نجح تيار "المستقبل" في جرّ سائر أطياف المعارضة إلى ملعبه، أو أخفق في هذه المهمّة، لأنّ المعارضة هي التي ستصوّر نفسها بهذه الطريقة، وكأنّها ترفض إشراكها في صنع القرار، بل ترفض التجاوب مع دعوةٍ حواريّة، لا خلاف على أنها لا تضرّ، وإن لم تنفع بالمُطلق.

سبحان مغيّر الأحوال!

سبحان مغيّر الأحوال. قد ينطبق هذا القول على مقاربة الدعوة إلى طاولة حوار في قصر بعبدا، في ضوء "اعتذار" هذا الطرف عن عدم المشاركة، وبحث آخرين عن أفضل السبل لـ "التنصّل" من المشاركة، وتفضيل قسمٍ ثالث "انتداب" من يمثّله باعتبار ذلك "أهون الشرَّيْن".

فقبل سنوات قليلة، كانت الصورة معاكسة تماماً في كواليس الصالونات السياسية، يوم كان البعض يلجأ إلى "ابتداع" معايير المشاركة، و"ابتكار" الحلول لتضمينهم ضمن الدعوات، كأن يُصار مثلاً إلى "اختراع" كتلٍ نيابيّة رباعية، ولو على طريقة "استعارة" بعض النواب من الكتل المعروفة، لتضمن الكتل "المصطنعة" الحصول على دعوةٍ للمشاركة، وهو "تكتيكٌ" اعتُمِد أكثر من مرّة.

قد تكون الظروف مختلفة هذه المرّة، خصوصاً أنّ الحكومة الحاليّة لا تشبه سابقاتها في الشكل والمضمون، وهي التي فصلت، للمرّة الأولى منذ فترة طويلة، معسكري الموالاة والمعارضة عن بعضهما بعضاً، لكنّ الظروف نفسها لا يفترض أن تسمح، بتحريف الأنظار عن الأزمة الحقيقية، نحو أخرى "مُفبرَكة" إن جاز التعبير، فيها ما فيها من عناصر "التسطيح والتسخيف"، فكيف بالحريّ إذا جاءت في زمن التحديات والانهيارات والأخطار الكبرى!.