"هل الذي أحصى السنين مفاخراً يا صاح ليس السرّ في السنوات لكنه في المرء كيف يعيشها في صحوة أم في عميق سبات" أيليا أبو ماضي

بعد تفشّي ظاهرة التطرّف العنيف المنتسب إلى ​الإسلام​ السلفي، زارني صديق بريطاني في بيتي، وهو صحفي مخضرم وشهير، ليستفهم عن رأيي في تلك الظاهرة وعن مدى تأثيرها على أبناء ​مدينة طرابلس​. بعد حوار طويل، ولختام الحديث سألني: "قل لي يا صديقي ألا يسأم هؤلاء السلفيون من القراءة في كتاب واحد؟"، فأجبته دون تردّد، لأنني كنت قد راجعت القضية مرات مع ذاتي وقلت: "يا عزيزي أنت صحفي امتهنت البحث عن الحقيقة منذ خمسين سنة فهل وجدتها؟"، فأجابني: "بالطبع لا"، فقلت: "أولا يضنيك هذا البحث الدؤوب وراء هدف تحجبه عنك أعداد لا تحصى من الستائر؟"، فهزّ رأسه إيجاباً، فقلت له: "هم وجدوا الحقيقة كلها في مقال واحد وارتاحوا، وأنت ما زلت تبحث بين أكوام الورق والتقارير، فمن حاله أفضل؟".

عندما شاهدت فيلم "عقول جميلة" الذي يروي سيرة أحد عباقرة الرياضيات في القرن العشرين "جون ناش"، الحائز على ​جائزة نوبل​ سنة 1994، استغرقت في مراجعة عميقة عن دور العقول النيّرة في تحدّي الأوهام والأفكار المسبقة الثابتة، حتى في مواجهة ذواتهم في بعض الأحيان.

فجون ناش كان أسير مرض انفصام الشخصية (شيزوفرينيا) وكان يعيش مع شخصيات وهمية كادت أن تقضي على نبوغه المبكر، عندما وضع "نظرية التوازن" التي أصبحت قاعدة عامة في الرياضيات و​الاقتصاد​. لقد تمكّن ناش بنبوغه من التغلّب على الأوهام والسيطرة على حالة مستعصية في الطب النفسي، ليكمل بحوثه ويعود للتعليم في جامعة "برنستون". إنّه أحد تلك العقول النيّرة القادرة على البحث عن الحقيقة رغم كل الصعوبات والأفكار المسبقة، مهما تجذّرت في عقول الناس.

من هنا أنطلق لطرح فكرة العقيدة، وهي في أصل الكلمة التأويلي محبوسة بين احتمالين، فإما أن تكون أصلها من فعل "أعتقد"، وبالتالي ترك احتمال ​النقاش​ مفتوحاً حول ما هو موضوع العقيدة، أو أن يكون أصلها "عقدة"، وبالتالي يصبح مجرد طرح النقاش ضرباً من المستحيل، وطريقاً حتمياً للشجار. فعندما أعتقد عليّ أن أفكر، وعندها يصبح الاعتقاد مجالاً للمراجعة والتأويل بناءً على ما يستجد مع الوقت، في تجاذب ما بين الكشف والاشتباه. أما العقدة التي تصبح عقيدة غير قابلة للبحث، فتعني موت ملكة التفكير التي هي ميزة الشر.

ما لنا ولكل ذلك، ولكن واقعة ​لبنان​ اليوم هي في كونها أسيرة ما بين المعنيين، أي ما بين أن تكون العقيدة اعتقاداً قابلاً للبحث والتحليل في سبيل الحلحلة، أو عقدة كأداء لا مجال للتحايل عليها إلّا من خلال القطع، والقطع هنا يشبه أن يقطع المرء جزءاً منه...

الموضوع المطروح هو كون عقيدة "​حزب الله​"، بمختلف جوانبها السياسية والأسطورية، لا تختلف بمضمونها العقدي عن كل العقائد العقدية الأخرى، بغض النظر عن المسوغات الفلسفية المرتبطة بها، وبغض النظر عن المسار العملي لمتّبعي العقيدة، أي أساليب عملهم.

فبالمجمل، كل تلك العقائد متشابهة في استعمالها للعنف سبيلاً للإقناع، وكلها تصنّف الناس في فسطاتين، أعداء أو أتباع، وكلها تعتبر نفسها مالكة للحقيقة الكاملة المطلقة عن الماضي والحاضر و​المستقبل​، وبالإجمال لدى كل منها تصور لنهاية الأزمنة، حتى تلك التي تفترض نفسها علمانية وملحدة. بالمختصر، فإنّ هذا النوع من العقائد يلغي ​الإنسان​ كوجود متفاعل مع ما هو موجود حوله، ويخرج نفسه عملياً من الوجود ككيان، ويرمي نفسه في كيان نظري، يفترض أنّه يسمو به وفيه. لكن الواقع هو أنّه يهدر وجوده ككيان قادر على الاختيار بمنأى عن فكرة فرضها "آخرون".