لبنان​ صار وطناً مشتّتاً مهزوماً ضائعاً في شقوق الفشل والتقصير والصراعات المذهبية السخيفة المحليّة والإقليمية والدولية والدينية المتفاقمة

"لبنان ما عاد وطناً بالمعنى الذي كنتم وما زلتم تحلمون به هناك في بلاد ​الاغتراب​. صار وطن المجاعة المقفل، وأسواق المقايضة وتبادل الحاجيات التي راحت تنصب في الساحات وعلى الأرصفة؛ حيث لا أموال بين أيدي الناس. صار وطناً مشتّتاً مهزوماً ضائعاً في شقوق الفشل والتقصير والصراعات المذهبية السخيفة المحليّة والإقليمية والدولية والدينية المتفاقمة. أنتم أبناء لبنان وأنتم أصحاب طاقات ومشاريع ثقافية وعلاقات مالية وتنموية هائلة في الوطن العربي وأوطان ​الخليج العربي​ و​العالم​ كلّه، وتبرقون في حقول العالم كلّه وكأنّكم تتغاضون عمّا يكابده ​اللبنانيون​ اليوم . وكأنّنا في زمن أشرس من أيّام المجاعة بين ال1915 و1918 التي محت نصف اللبنانيين من الجوع و​الفقر​ والمرض. لا نصدّق ولن يصدّق العالم في القرن الحادي والعشرين، أنّ حجم الشكاوى وصرخات الجياع والمحتاجين وتكاثر النشّالين والسارقين أو المتسلّلين إلى بيوت الناس وأرزاقهم وظهور المسلّحين وتواتر ​التظاهرات​ والإنتحار اليومي تخلّصاً من الجوع ومشاهد الخلع والتكسير والتظاهرات و​العنف​ اليومي هي التي تملأ الأرجاء، وتشعل مقدّمات ​الأخبار​ في الإذاعات وبرامج الشاشات والناس كلّ الناس في لبنان".

هذه الاستهلالية التي تنزّ دماً مخنوقاً، وردتني إلى لندن من طالبة دكتوراه، سرّحت من عملها، وهي جائعة في ​بيروت​، عبر رسالة إلكترونية خاصّة بعنوان: كيف أخرج من لبنان؟ هزّت جذوري. ولن أنقلها حرفيّاً ، ولن أترجمها إلى لغات العالم بكونها توصّف وقائع البطش والطيش السياسي والترك والإهمال والتقوقع والجمود والجشع والكيدية الوحشية الحاصلة بين زعماء الأحزاب وزعماء ​الطوائف​ في بلدٍ صغيرٍ يحبو خائراً على إيقاعات تفشّي ​الكورونا​ المتنامي هناك ومستقبله مهدّد في الشهرين المقبلين، كما العالم المشغول بنفسه، بأوبئة أقسى بكثيرٍ ممّا شهدناه.

صحيح، هناك لبنانيون ناجحون وفاعلون جذّابون في دول الأرض، وهم في مراكز القرار الكبرى يتجاوزون بتجاربهم هزال الساسة في لبنان؛ لكنّ الأصح والأخطر أنّ لبنان انزلق فوق حافة الانهيارات إلى حفرة تضمّ خليطاً غريباً من العقول والتوجهات والخطب والارتباطات والأمزجة والثقافات السادية المشدودة الأوتار والأعصاب. لا يغريهم سوى ​المال​ والإذلال والمظهر والكلام الذي لا يتجاوز الشفاه؛ حيث تتكرر الأزمنة والنصوص والأجيال باسم عناوين وشعارات مجوّفة مستوردة في الحرية والديمقراطية والتمايز وغيرها من الكلام المعلوك. اللبناني في العالم شيء؛ لكنه في لبنان آخر. لبنان مجدّداً شبه جزيرة منعزلة عن العالم، تغرق في محيط من الأزمات، وتتطلّع نحو الشرق، سجين مصعد عالق بين دور علوي يضم طبقات من الحكّام والسياسيين والمصرفيين ورؤساء الأحزاب الميسورين وقد هرّبوا ذخيرة لبنان إلى الخارج، ومن حولهم هناك تناكف ومستشارون وشركات دراسات وإحصاءات ومبعوثو ​صندوق النقد الدولي​ وحولهم يتحرّك السفراء والقناصل والمبعوثون يحاولون حث دولهم و​المجتمع الدولي​ دون جدوى.

تتكرّر أزمنة الجوع التركي 1915-1918 أشدّ ضراوةَ في العيد المئوي للبنان الكبير الضامر جوفه من الجوع. لم ولن يفهم الغربيون، لا لبنان والعرب ولا ​الإسلام​ وتشظيات المسلمين. ليس لأنّ المسألة مستعصية على الفهم؛ بل لأنّ العين العالمية أدمنت الكسر والزجر ومشاهد الانصياع الدائم لمقتضيات التطوير والتغيير وفق الأنساق المستوردة. لا مقام ظاهرياً للاعتبارات والخصوصيات والبصمات في العلاقات الدوليّة، مع أنّ لكلّ مخلوق عالمه وفقاً لكشوفات الغرب وقد جرفت في طريقها معظم الأفكار والأنظمة الشمولية وناهضت حتّى نسبيّة آنشتاين حفاظاً على التنوّعات. تأخذنا سلطات التنوّع والفرادة المنبسطة أحياناً الى تفكيك أعضاء الجسد الإنساني وخلاياه؛ بحثاً عن بصمات ودمغات خاصّة لا تنتهي، لكنّ الغرب يتملّك عبرها حركة كل مخلوق حاضراً ومستقبلاً وحتّى في مثواه الأخير.

كتب باولو كويلو الروائي البرازيلي أنّ عاقل العقلاء أسدى بنصيحة ترى بأنّ سرّ السعادة البشرية قائمة في التأمّل بعجائب هذا العالم من حولنا من دون التفريق بين إنسانٍ وآخر، على ألاّ ننسى نقطة من الزيت في قعر الملعقة التي نحملها.

وأضيف إلى النقطة، لازمة الجواب على طالبة الدكتوراه، نقطتين من الزيت ، رغبةً منّي بتليين يباس العقل والنطق والإبداع والتواصل التاريخي بين الشعوب

والحضارات؛ للخروج الحقيقي من أثواب الكائنات المفترسة التي يقيمون فيها؛ بل هي تذكّرهم بحجرة جدّهم قايين؛ دفاعاً عن الكائن الأعلى والأرقى والأوحد.