إِنّ لُبنان، بعد الأَزمة الماليّة و​الاقتصاد​يّة الحادّة الّتي تجلّت منذ ما بعد 17 تشرين الأَوّل 2019، مدعوٌّ إِلى إِعادة نظر شاملة في كُلّ القطاعات الإِنتاجيّة، والأَنشطة الاقتصاديّة، بخلفيّة جديدةٍ مفادها أَنّ حسابات ما بعد الأَزمة الماليّة، هي غير تلك الّتي كانت قائمةً قبل التّاريخ المُشار إِليه... فالأَزمة قد وضعت شروطها، وبات على الجميع التّجاوب مع تلك الشُّروط!.

ومِن الحكمة في هذا الإِطار، التّعاطي مع عناصر جديدةٍ تأَتّت نتيجة الأَزمة الحادّة تلك. وهذه العناصر تحمل في طيّاتها ملامح إِيجابيّةً، قد تكون مُفيدةً للبناء عليها، في إِطار رؤيةٍ اقتصاديّةٍ جديدةٍ، شرط أَن تُحسن الاستفادةُ منها...

وفي الإِمكان بالتّالي الاستفادة مثلاً من تراجُع قيمة العملة الوطنيّة في مقابل الدُّولار، للعمل على تحسين ظُروف السّياحة مثلاً، وجعلها لا تقتصر فقط على طبقة الميسورين من السُّيّاح العرب والأَجانب، بل تُضحي مُتاحةً لشريحةٍ أَكبر من السُّيّاح.

كما وأنّ في ​لبنان​ ثروةً سياحيّةً لم تُستثمر بعد على النّطاق الّذي ينبغي الاستفادة منه، وعنيت بها السّياحة الدّينيّة وزيارة الأَماكن المُقدّسة، مثل وادي القدّيسين وبلدة ​مار شربل​ (​بقاعكفرا​) وغيرهما من الإرث الإنساني المهمّ جدًّا في لُبنان، "وطن الرّسالة" على ما أَكّد قداسة ​البابا​ يُوحنّا بولُس الثّاني. كما وتُعتبر السّياحة الدّينيّة من أَهمّ دعائم الأَنشطة السّياحيّة في لبنان، البلد الّذي يتميّز بتنوُّعه العقائديّ، وكذلك يزخر بعددٍ كبيرٍ مِن المواقع الدّينيّة التّاريخيّة أَو المقامات الّتي تستقطب الزُّوّار مِن كُلّ المذاهب الإِسلامية والطّوائف المسيحيّة. وبحسب مسؤولين في ​وزارة​ السّياحة اللُّبنانيّة، وقائمين على مُؤَسّساتٍ دينيّةٍ إِسلاميّةٍ ومسيحيّةٍ، يتدفّق الزّوّار طول السّنة على المواقع الدّينية والمقامات في لبنان. فعلى سبيل المثال يحجّ إِلى معبد ​حريصا​ (سيّدة لُبنان) أَكثر من مليون ومئتي أَلف شخصٍ سنويًّا، وغالبيّتهم من اللُّبنانيّين والعرب والإِيرانيين، فيما يزور الأَماكن الشّيعيّة خلال مُناسبة ​عاشوراء​، في مدينتي النّبطيّة و​بعلبك​، حوالي 600 أَلف زائر سنويًّا. وأَمّا مسجد محمّد الأمين في وسط ​بيروت​، فيجتذب ما يزيد عن 500 أَلف شخصٍ كُلّ عام، بينما يأتي إِلى مزار عنّايا (ضريح القدّيس) أَكثر من 700 أَلف شخصٍ خلال كُلّ السّنة.

ومِن شأن النّكسة الّتي أَصابت العُملة الوطنيّة، والانهيار الصّاروخيّ الّذي تسبّبت به، أَن يُعززا وضع السّياحة عندنا، ما يُشجّع على دُخول المزيد من السُّيّاح، مُستفيدين مِن تراجُع الأَسعار في المرافق السِّياحيّة كافّةً... وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإِنّ أَسعار لائحة الطّعام، قد أُضيف بعد الأَزمة إِلى كُلّ عنصرٍ منها مبلغ أَلف ليرة، فيما ارتفع سعر الدّولار قياسًا للّيرة اللّبنانيّة بنسبة 500 في المئة، إِذا ما اعتبرنا أَنّ سوق صرفه اليوم هو 7500 ليرة في مقابل الدُّولار الواحد.

وبالأَرقام، فإِنّ وجبةً لشخصين في مطعمٍ، قوامها طبقان من الطّعام، مع مشروبين (مشروب غازيّ وأيس تي مثلاً)، مع نارجيلةٍ، يتراوح سعرها بين 40،000 و50،000 ليرة لبنانيّة بحسب المطعم، وفي شكلٍ عامّ، أَي أَقلّ من 7 دولارات أَميركيّة كحدٍّ أَقصى. وأَمّا الزّودة على الفاتورة فهي فقط 5000 آلاف ليرة، أَي 10 في المئة من قيمة الفاتورة قبل الأَزمة، وهي لا تُذكر، قياسًا لانهيار سعر صرف اللّيرة (500 %).

بيد أَنّ انخفاض فاتورةٍ لا يُجدي نفعًا، إذا ما استمرّت باقي الفواتير مُرتفعةً، وبالتّالي على ​الفنادق​ مثلاً، أَن تُعيد بدورها النّظر في أَسعارها، في ظلّ استفحال سعر صرف "عملة العمّ سام" الخضراء، قياسًا للعُملة اللّبنانيّة...

كما ويبقى كُلّ ذلك ناقصًا إِذا لم يُبادر كُلّ وزير بالاستفادة مِن خبرة سلفه، وكذلك مِن المُعاهدات والاتّفاقات السّياحيّة المُبرمة، بهدف المضيّ بها قُدُمًا وتفعيلها...

وعلى "الحراك الشّعبيّ" أَيضًا، أَلا يضيع بوصلة حركاته الاحتجاجيّة، في شكلٍ يأخذ في الاعتبار أَنّ السّائح ليس من سرق أَمواله، بل انّه على العكس، يأتي إِلينا بالعملة النّادرة، وأَنّ يعلم الجميع أَيضًا، أَنّ المرافق السّياحيّة ليست المكان المُفيد للاحتجاج، وأَنّ قلب العاصمة بيروت –ستّ الدّنيا– ليس مربض خيلٍ للأَنشطة الاحتجاجيّة، إِذا ما كانت هادفة...

إِنّ الثّقة إذا ما فُقدت في قطاع اقتصاديّ، فإِعادتها مِن الأُمور البالغة التّعقيد، وبالتّالي فإِنّها تتطلّب وقتًا طويلاً. وإِنّ أَيّ قطاعٍ أَو مرفقٍ اقتصاديٍّ، لا يُمكن الرّهان عليه مُنفردًا للنّهوض بالاقتصاد اللّبنانيّ من كبوته، وإنّما تنبغي إِعادة تقويم كُلّ عناصر الاقتصاد الوطنيّ، للخروج باستراتيجيّةٍ تكون على حدٍّ سواء شاملةً وتكامليّةً، وفي إِطار بُنيةٍ جديدةٍ وليدة التّعامل بذكاءٍ مع مُختلف المُعطيات الجديدة!. وعلى سبيل المثال، فقد أَظهرت الأَزمة الأَخيرة خُطورة عدم إِيلاء الزّراعة والصّناعة ما تستحقّات مِن أَهميّةٍ. فلو نالا الاهتمام اللازم من خلال السّياسيات الاقتصاديّة والماليّة للحُكومات الكثيرة المُتعاقبة، لما كانت الأَزمة تأخذ الحدّة الخطرة الّتي بلغتها، في مُجتمعٍ لطالما راهن على قطاع الخدمات و​المصارف​، فتوقّفت الخدمات وتعثّرت المصارف!.