يطرح موضوع حياد ​لبنان​ الذي طرحه ​البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي​ كثيراً من التساؤلات حول توقيته وابعاده والخلفيات، في الوقت الذي كان لبنان ولا يزال في تاريخه الحديث، كما المعاصر، غير محايد عن اي شأن اقليمي ودولي، لا على مستوى نظامه السياسي ولا على مستوى ولاءات القوى السياسية اللاعبة على ساحته.

تنقسم الاوساط السياسية اللبنانية في تفسيرها لخلفيات الطرح الحيادي والهدف الذي يرتجيه منه طارحوه، الى مجموعة افرقاء لكل منهم رأيه فيه وتفسيره والتحليل، خصوصاً بعد توضيح البطريرك الراعي إثر زيارته ​رئيس الجمهورية​ العماد ​ميشال عون​، بأنّه يقصد بالحياد الذي طرحه «الحياد الايجابي» لا السلبي، في اعتبار انّ لبنان يتفاعل دوماً مع القضايا العربية وعلى رأسها ​القضية الفلسطينية​، ولا يمكنه في هذه الحال إلّا ان يكون محايداً ايجابياً من دون ان يتدخّل في الشؤون الداخلية لهذه ​الدولة​ او تلك.

ـ الفريق الاول، يعتبر انّ لبنان الذي بلغ الانهيار السياسي والاقتصادي والمالي حدّ الخطر على وجوده، بات لا مناص له من تحييد نفسه عن نزاع المحاور الاقليمية والدولية، لانّ سبب ما آل اليه هو انغماس بعض القوى السياسية في هذا النزاع، ما جعل ​المجتمع الدولي​ و​الدول المانحة​ العربية والاجنبية تحجم عن تقديم اي دعم له، لتمكينه من تجاوز الازمة المالية والاقتصادية والمعيشية الخانقة.

وهذا الفريق يلقي باللائمة والمسؤولية على «حزب الله» وحلفائه، لتدخّلهم في الازمات الاقليمية ومعاداتهم ​دول الخليج​ العربي، التي تعوّد لبنان على دعمها المادي له بشتى صنوفه. كما يتهم هذا الفريق «الحزب» وحلفاءه بأخذ لبنان الى «الخيار الشرقي» و»تغيير» وجه لبنان السياسي والاقتصادي.

ـ الفريق الثاني، يعتبر انّ طرح الحياد في ظلّ هذه الظروف التي يتعرّض فيها لبنان لوابل من الضغوط السياسية والمالية والاقتصادية، والتي يحرص ممارسوها على التأكيد انّها تستهدف «حزب الله» وحلفاءه، لانتمائهم الى محور ​المقاومة​ والممانعة، انما يتماهى مع ​السياسة​ الاميركية والغربية عموماً، الهادفة الى تقويض نفوذ «حزب الله» وحلفائه، ضمن مشروعها الهادف الى تقويض نفوذ «المحور الممانع» وعلى رأسه ​سوريا​ و​إيران​ كونه يعوق مشاريع الاميركيين وحلفائهم في المنطقة.

- الفريق الثالث، يعتبر انّ طرح الحياد اللبناني في الداخل والخارج انما يستبطن في النهاية رغبة الصلح مع ​اسرائيل​، على قاعدة انّ لبنان ليس بقادر ان يستمر طويلاً في خيار المقاومة وفي استمرار الانغماس في النزاع العربي - الاسرائيلي، في الوقت الذي عبّرت عواصم عربية كثيرة عن رغبتها في ​السلام​ مع اسرائيل، أو على الاقل التطبيع معها، في ظلّ السعي الاميركي ـ الاسرائيلي الى ​تحقيق​ «صفقة العصر» التي يبدو انّ من بين بنودها مشروع اسرائيل لضمّ ​الضفة الغربية​، والذي يبدو انّ ​تل ابيب​ ارجأت تنفيذه الذي كان مقرّراً مطلع الشهر الجاري الى موعد لاحق، بناءً على رغبة الرئيس الاميركي ​دونالد ترامب​، الذي وجد مصلحة في هذا التأجيل، لئلا يثير ضمّ الضفة مضاعفات فلسطينية وأردنية وعربية، لا تعود بالنفع الانتخابي لحملته الهادفة الى تحقيق فوزه بولاية رئاسية ثانية.

على انّ المؤيّدين للحياد يبنون موقفهم على أنّ استمرار لبنان او قوى سياسية معنية فيه، في التدخّل او التفاعل مع نزاع المحاور او التمحور فيها، سيزيد من حجم الضغوط على لبنان، بما يدفعه الى الانهيار الكامل الذي قد يوصل اللبنانيين الى حدود المجاعة. ويستند هؤلاء الى أنّ ما لديهم من معطيات تشير الى انّ كل الدول المانحة العربية والدولية، لن تقدّم اي دعم للبنان ما لم يحيّد نفسه فعلاً لا قولاً عن النزاعات الاقليمية ومحاورها، خصوصاً بعد فشل سياسة «النأي بالنفس» التي اختطتها ​حكومة​ الرئيس ​نجيب ميقاتي​ وتوالت فصولاً مع الحكومات اللاحقة.

وهنا، يقول المحايدون إزاء الطرح الحيادي، من الافرقاء السياسيين، ان جميع الافرقاء اللبنانيين ما كانوا محايدين ولا محيّدين انفسهم سابقاً عن المحاور الاقليمية، ولا هم بقادرين اليوم على هذا الحياد او التحييد، ولذلك فإنّ الكلام عن حياد لبنان سيبقى بلا تنفيذ، ك​سياسة النأي بالنفس​، طالما ان الازمات الاقليمية متواصلة. فكيف للبنان مثلاً ان يحيّد نفسه في الوقت الذي تستهدف «صفقة العصر» توطين ​اللاجئين الفلسطينيين​ فيه، وفيما البعض يتحدث عن احتمال توطين ​النازحين السوريين​ ايضاً.

اما معارضو طرح الحياد فإنّهم يسألون مؤيّديه، هل أنّ اسرائيل ستكون محايدة ازاء لبنان اذا التزم الحياد بالمفهوم الذي طرحه البطريرك الراعي او غيره، بحيث أنّها تعيد له ارضه المحتلة براً وبحراً وتتوقف عن انتهاك سيادته في كل حين؟ وهل انّها ستسمح للبنان بأن يمتلك اسلحة كاسرة للتوازن او على الأقل تؤمّن له قوة ردع تحميه منها او حتى من غيرها؟ هذا الامر، يقول المعارضون، من المؤكّد انّ اسرائيل لن تلتزمه، وبالتالي حتى يكون لبنان محايداً فإنّه ينبغي ان يمتلك القدرة والقوة وشبكة الامان اللازمة التي تمكّنه من ممارسة حياده بجدّية وبالنحو الذي يعيد له دوره الفاعل في محيطه وعلى المستوى العالمي، خصوصا أنّه كان من الدول المؤسسة لكثير من المنظمات العربية والدولية وعلى رأسها ​الامم المتحدة​ و​جامعة الدول العربية​.