لا تزال الدعوة إلى حياد لبنان التي أطلقها البطريرك الماروني الكاردينال مار بشاره بُطرس الراعي محطّ أخذ وردّ بين مُؤيّد ومُعارض وما بينهما من مُتحفّظين. فكيف ستتطوّر هذه الدعوة، وما هو جديد المواقف والتحرّكات بشأنها، وهل ستتعرّض لضربة قاسية في حال ردّ "​حزب الله​" بعمليّة عسكريّة من لبنان على سُقوط أحد مُقاتليه في غارة إسرائيليّة على ​سوريا​؟.

بحسب المَعلومات المُتوفّرة، إنّ ​بكركي​ التي إستضافت أمس قمّة روحيّة مسيحيّة مُوسّعة لتعزيز موقف البطريرك الراعي، ستمضي قُدمًا بتحريك ملف الدعوة إلى الحياد، ولن تُثنيها بعض الحملات السياسيّة والإعلاميّة من هنا وهناك، عن مُتابعة المساعي لجمع أوسع حول دعوتها. ومن المُقرّر أن تُواصل بكركي توضيح خلفيّات موقفها من الحياد، ردًا على التشويه الحاصل بحقّها، حيث أنّها لا تدعو إلى عدم دفاع لبنان عن نفسه ضُدّ أيّ إعتداء، ولا إلى التخلّي عن القضيّة الفلسطينيّة أو عن أيّ من القضايا العربية المُحقّة والمَدعومة بقرارات من الشرعيّة الدَوليّة، لكنّها ليست مع الدُخول في الخلافات الداخليّة بين ​الدول العربية​، ولا مع تورّط لبنان في صراعات المحاور الإقليميّة والدوليّة، لأنّ إرتدادات هذا التورّط واضحة للجميع، لجهة التسبّب بزيادة المآسي التي يعيشها الشعب اللبناني. وبحسب المَعلومات أيضًا، إنّ بكركي تدرس حاليًا جدوى توجيه الدعوة إلى حوار وطني واسع بشأن مسألة الحياد، لكنّ أيّ قرار بهذا المعنى لم يُتخذ بعد، خاصة وأنّه تُوجد مُعارضة حتى من قبل المُؤيّدين لمبدأ الحياد، خشية تسجيل مُقاطعة واسعة لهذه الدعوة، وخشية حُضور بعض الجهات بأجندات مُغايرة تُشوّه الدعوة إلى الحياد أو تنقلها إلى مكان آخر وتفرّغها من مضمونها.

في غُضون ذلك، من الواضح أنّ ردّات الفعل على دعوة بكركي مُتفاوتة وحتى مُتضاربة. وفي حين جرى تسجيل مُقاربات حذرة من جانب العديد من القوى، ومنها "تيّار المردة"، و"الحزب الديمقراطي اللبناني" على سبيل المثال لا الحصر، أخذت قوى أخرى على عاتقها تظهير دعوة الحياد وتفعيلها. وفي هذا السياق، سارع حزب "القوات اللبنانيّة" إلى التحرّك على أكثر من خطّ لدعم كلام الراعي، عبر إرسال الوُفود إلى مرجعيّات سياسيّة وحزبيّة، في محاولة لتحصيل مواقف مُؤيّدة لموضوع الحياد، أو على الأقلّ للحؤول دون مُهاجمة هذا الموضوع في حال كان كسب التعاطف من قبل الجهات المعنيّة مُتعذّرًا. وينوي حزب "القوات" مُواصلة هذه الجولات الداخليّة، بالتزامن مع تحريك الموضوع دبلوماسيًا وعلى مُستوى الجاليات اللبنانيّة المُنتشرة في العالم، في مُحاولة لإيجاد حركة مَطلبيّة دَوليّة شبيهة بما حصل بالنسبة إلى نداء المطارنة المَوارنة الذي صدر في 20 أيلول من العام 2000، والذي كان دعا خُصوصًا إلى إنسحاب قوّات الإحتلال السُوري من لبنان، بعد إنسحاب قوّات الإحتلال الإسرائيلي منه، والذي تحوّل مع الوقت إلى كرة ثلج كبرت مع الوقت وُصولاً إلى إصدار ​مجلس الأمن​ الدَولي في 2 أيلول من العام 2004 القرار رقم 1559 الذي طالب بإنسحاب القوّات الأجنبيّة المُتبقية في لبنان، وبحلّ ما تبقّى من ميليشيات مُسلّحة أيضًا، وبإجراء إنتخابات حرّة وديمقراطيّة بدون تدخّلات خارجيّة.

من جهة أخرى، "التيار الوطني الحُرّ" الذي رفض ببيان صادر عن اللجنة المركزيّة للإعلام فيه، "أيّ كلام طائفي إستفزازي عن أيّ مرجعيّة دينيّة ضُدّ أي رمز ديني أو مرجعيّة دينيّة أخرى"، في ردّ على كلام رئيس ​المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى​ الشيخ ​عبد الأمير قبلان​ غير المُباشر بحقّ البطريرك الراعي، حاول على لسان رئيس "التيّار" النائب ​جبران باسيل​ أخذ مسألة الحياد إلى موقع وسطي، لا يُسقط مُبادرة الكاردينال الراعي من جهة، ولا يُغضب "حزب الله" ومحور "المُقاومة والمُمانعة" من جهة أخرى. وينوي "التيّار" تقريب هذه المُبادرة إلى وجهة نظره الداعية إلى إستقلال القرار اللبناني عن التأثيرات الخارجيّة، بغضّ النظر عن الإنتقادات التي يتعرّض لها في هذا المجال، والتي تتحدّث عن إنغماس لبنان في محور إقليمي واضح، ولوّ بدون مُوافقة "التيّار".

إلى ذلك، إنّ "حزب الله" الصامت رسميًا إزاء موضوع الحياد–أقلّه حتى تاريخه، حرّك من وراء الكواليس مجموعة من الجهات السياسيّة والإعلاميّة للتصويب على مُبادرة الراعي، وهو يُراهن على عامل الوقت لسُقوطها تلقائيًا، لا سيّما في ظلّ غياب وحدة الموقف حولها، علمًا أنّ "الحزب" سبق له وأن فرّغ "إعلان بعبدا"(1) الذي يدعو ضُمن بُنوده المُتعدّدة إلى تحييد لبنان عن سياسة المحاور وإلى تطبيق القرارات الدوليّة بما فيها ​القرار 1701​، من مَضمُونه. وتخشى أكثر من جهة سياسيّة مؤيّدة لمبدأ حياد لبنان، من أن يأتي رد "الحزب" على دعوة بكركي من بوّابة ميدان القتال، عبر تنفيذ عمليّة عسكريّة إنطلاقًا من الأراضي اللبنانيّة، إنتقامًا لسُقوط مُقاتل من "حزب الله" وآخرين إيرانيّين، في غارة إسرائيليّة على سوريا ليل الإثنين–الثلاثاء الماضي. وبالتالي، في حال حصل الردّ من لبنان، وليس من سوريا كما هو مُفترض، تبعًا للموقع الجُغرافي للإعتداء الإسرائيلي، يكون "حزب الله" قد أكّد عمليًا عدم إستعداده للإلتزام بأيّ دعوة لتحييد لبنان عن صراعات المنطقة.

في الخُلاصة، الأكيد أنّ ملف الحياد سيكون محور جدال إضافي في لبنان، وهو لن يُسفر عن أيّ تغييرات فوريّة على مُستوى تورّط لبنان في النزاعات الإقليميّة المُتعدّدة، لكنّ الإستخفاف بالدعوة إلى الحياد، يُذكّر بإستخفاف مُماثل طال نداء الموارنة الشهير في العام 2000، قبل أن يحتفل الكثير من اللبنانيّين بالرقص والزغاريد بخروج آخر جندي سُوري من لبنان في 26 نيسان 2005، بعد حُصول تغييرات في موازين وتحالفات وتموضعات القوى الإقليميّة والدَوليّة آنذاك. ولا شيء يمنع من تكرار الأمر نفسه بالنسبة إلى مسألة الحياد– ولوّ بعد حين!.

(1) صدر في حزيران 2012 في ختام نقاشات طاولة الحوار الوطني اللبناني في عهد الرئيس السابق ميشال سليمان.