منذ السابع عشر من تشرين الأول الماضي، تطغى على الساحة المحلية المواقف الدولية والإقليمية الداعية إلى ​محاربة الفساد​ والإصلاح، الأمر الذي من المفترض أن يكون موضع استغراب، ليس لأن أغلب الطبقة السياسية المحلية ليس فاسداً، بل لأن الجهات التي تحمل تلك الشعارات كانت، على مدى سنوات طويلة، هي الراعية لهذه الطبقة، لكن على ما يبدو لم تعد ترى أنها تلبّي طموحاتها.

في هذا السياق، من الضروري التنبّه إلى مجموعة من المعطيات، أبرزها الموقف الأميركي من الأحداث المحلية، الذي عبر عنه مساعد وزير الخارجية الأميركية ​ديفيد هيل​، خلال زيارته إلى بيروت الاسبوع الماضي، لناحية تأكيده أن إنفجار ​مرفأ بيروت​ كان، بطريقة او بأخرى، من أعراض أمراض في لبنان هي أعمق بكثير، وهي أمراض استمرت لفترة طويلة جدًا، وكل من في السلطة تقريباً يتحمل قدراً من المسؤولية عنها.

هذا الموقف الأميركي ليس بالجديد، بل يعود الى ما قبل تعيين السفيرة الحالية في بيروت ​دوروثي شيا​، حين اعتبرت السفيرة السابقة اليزابيث ريتشارد، في رسالتها الوداعية، أن النظام، في العقود القليلة الماضية، لم يعد يعمل، وبالتالي هذه فرصة تاريخيّة للشعب اللبناني لقلب الصفحة، في مؤشّر إلى أنّ واشنطن لا تمانع الإنقلاب على بعض حلفائها في لبنان، أو جميعهم، في حال كان ذلك سيقود إلى قلب المعادلة التي تحقق مصالحها، إنطلاقاً من عناوين الإصلاح و​مكافحة الفساد​.

من خلال ذلك، يصبح من الممكن فهم مساعي التركيز في التصويب على كل من "​التيار الوطني الحر​" و"​حزب الله​" في توجيه الإتهامات، سواء عبر وسائل الإعلام أو من خلال بعض القوى السياسية المشاركة في السلطة منذ ما يزيد عن 30 عاماً، بينما حضور كل من التيار والحزب لا يتجاوز 15 عاماً، الأمر الذي يستحقّ التوقف عنده، نظراً إلى أنه يقود إلى طرح "القيادات الجديدة" الذي يجري التداول به في بعض الأوساط المحلية.

حتى الآن، لم تظهر تلك "القيادات" المطلوبة بشكل واضح وعلني، لكن على ما يبدو الإصرار على الدعوة إلى إنتخابات نيابية مبكرة أو الحكومة الحيادية يُراد له أن يكون البوابة المناسبة لظهورها، وهذا الواقع ليس وصفة خاصة بالساحة اللبنانية، بل شهدته العديد من الدول العربيّة الأخرى، التي شهدت نزاعات محلية في الفترة الماضية، من مصر إلى تونس وصولاً إلى ليبيا والصومال والجزائر.

في معظم تلك الدول، كانت "القيادات الجديدة" عبارة عن جنرالات عسكريّة، لا تخرج سياسياً عن دائرة المحور الذي تقوده بعض القوى الإقليميّة برعاية أميركيّة، لكن في لبنان الوضع مختلف، حيث لا يمكن أن تكون تلك "القيادات"، بسبب تركيبة المجتمع الطائفيّة والمذهبيّة، عسكريّة، لذلك كان التركيز على بعض المجموعات من المجتمع المدني، من دون أن يعني ذلك أنّها كلّها مرتهنة أو متورطة في هذا السيناريو، بهدف أن تتولى قيادة "الإنقلاب"، الذي بات الحديث عنه علنياً في الأوساط، إلى جانب قوى وشخصيات سياسية أخرى.

الهدف من هذا التحوّل، لم ولن يكون الوصول إلى محاربة الفساد أو الإصلاح في لبنان، فالدول ليست جمعيات خيريّة تبحث عن مساعدة الشعوب بلا ثمن، بل إدخال البلاد في المسار التطبيعي مع ​إسرائيل​ الذي يجتاح المنطقة، فليس تفصيلاً كان اللقاء، الذي جمع رئيس مجلس السيادة الانتقالي بالسودان عبد الفتاح البرهان مع رئيس الوزراء الإسرائيلي ​بنيامين نتانياهو​، قبل أشهر، وصولاً إلى الإعلان عن "الإتفاق التاريخي" بين الإمارات، التي تدعم السلطة الجديدة في الخرطوم، وإسرائيل.

في المحصّلة، كل ما يحصل على الساحة اللبنانيّة يأتي في هذا السياق، الذي سيتمظهر في المرحلة المقبلة يوماً بعد آخر، في ظلّ توسّع طروحات محاربة الفساد والإصلاح، لكن الأساس يكمن بأنّ أغلب القوى السّياسية كانت مسؤولة عن فتح الباب أمامه، سواء عبر تقصيرها أو إهمالها أو التواطؤ، وما تقدم لا يعني الدفاع عنها أو الرغبة في بقائها بل الدعوة إلى التنبه إلى كل ما يحصل.