في لحظة لم تستفق فيه ​الولايات المتحدة​ بعد من الصفعة التي تلقتها في ​مجلس الأمن الدولي​، الذي رفض بإجماع أعضائه تقريباً، ما عدا ​أميركا​ ودولة ​الدومينكان​، مشروع قرار أميركي لتمديد حظر تصدير ​السلاح​ إلى ​إيران​… حتى وُجّهت لها صفعة ثانية، في خلال أسبوع، أكثر إيلاماً، تمثلت في مسارعة الدول الكبرى الدائمة العضوية في مجلس الأمن، ​روسيا​ و​الصين​ و​بريطانيا​ و​فرنسا​، الى إعلان معارضتها مشروع قرار تستعدّ ​واشنطن​ لعرضه على المجلس، ويستهدف إعادة فرض العقوبات الدولية على إيران، وهي العقوبات التي تمّ رفعها عام 2015 على اثر التوقيع على الإتفاق ​النووي الإيراني​، ومصادقة مجلس الأمن الدولي عليه، ما جعل منه اتفاقاً دولياً ملزماً…

تنطلق المعارضة الدولية ​الجديدة​ لمشروع القرار الأميركي من أنّ الولايات المتحدة ليس من حقها الدعوة لإعادة فرض العقوبات على إيران، لأنها لم تعد من بين الدول الموقعة على ​الاتفاق النووي​، التي يحق لها المطالبة بذلك، بعد أن أقدم الرئيس الأميركي ​دونالد ترامب​ على الإنسحاب من الإتفاق…

هذا التطور الهامّ والبالغ الدلالات و​الآثار​ على العلاقات المعادلات الدولية، تبرز أهميته من أنّ المعارضة للانتهاكات الأميركية للقرارات والاتفاقيات الدولية، لم تعد تقتصر على كلّ من روسيا والصين، وإنَّما باتت تشمل أيضاً الدول الحليفة للولايات المتحدة، مثل فرنسا وبريطانيا.. فلم يكن منتظراً انضمام الدول الأوروبية، وللمرة الثانية في غضون أسبوع فقط، إلى جانب الموقف الروسي الصيني في معارضة مشاريع أميركية تستهدف إيران.. أنه بلا شك بداية تحوّل، ويشكل صفعة موجعة لإدارة الرئيس الأميركي ترامب.. ودلل في الوقت نفسه ما يلي:

أولاً، حجم العزلة التي باتت تعاني منها أميركا في مجلس الأمن الدولي، وهي العزلة التي عكستها ثلاث محطات في زمن إدارة ترامب:

ـ المحطة الأولى كانت في 18/12/2017 عندما اتخذ مجلس الأمن قراراً بشأن قضية ​القدس​، حيث صوّت ثلاثة أرباع العالم ضدّ مشروع ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لـ «إسرائيل».

ـ المحطة الثانية، بتاريخ 15/8/2020 عندما صوّت مجلس الأمن ضدّ مشروع قرار أميركي بتمديد حظر بيع السلاح لإيران، ولم يكن هناك حاجة لاستخدام الفيتو من قبل الصين وروسيا…

أما المحطة الثالثة، فقد كانت بالأمس عندما رفضت الدول الكبرى الدائمة العضوية طلب واشنطن طرح إعادة فرض العقوبات الدولية على إيران..

لقد كشفت هذه القرارات عن عزلة الولايات المتحدة دولياً؛ وتراجع هيمنتها وقدرتها على قيادة العالم، وانحسار تأثيرها حتى على الدول الحليفة لها بالسّير وراءها بقرارات تتعارض مع القوانين والقرارات والإتفاقيات الدولية… وهو ما دفع مجلة «فورين بوليسي» الأميركية المعروفة، الى وصف ما حصل، بالهزيمة الدبلوماسية للسياسة الأميركية…

ثانيا، أشر إلى أيّ مدى باتت واشنطن وحيدة خارجة على الإجماع الدولي، وأظهر أنّ ​السياسة​ الأميركية تعاني من ​العجز​ والفشل على الصعيد الدولي على نحو لم يسبق أن حصل منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، لأنها، أيّ أميركا، لم تعد تحترم القرارات والمعاهدات الدولية التي صادقت عليها وقامت إدارة ترامب بالانقلاب عليها.. فقد أدّت سياسات ترامب الخارجية غير المتزنة والتي تتسم بالغطرسة والتسلط، والانسحاب من الاتفاقيات الدولية، كالانسحاب من اتفاقية المناخ و​اليونيسكو​، ووقف مساهمات أميركا في المنظمات الدولية، مثل ​الأونروا​ و​منظمة الصحة العالمية​ إلخ… وصولاً الى شن الحروب الاقتصادية والتهجّم وإهانة العديد من زعماء العالم، كلّ ذلك كان من الطبيعي أن يثير ردود فعل دولية غاضبة ومعارضة لمثل هذه السياسة الأميركية غير المألوفة من قبل حلفاء أميركا، قبل خصومها، حتى أنّ بريطانيا أقرب الدول لأميركا لم تعد قادرة على تحمّل الصمت أو مسايرة ترامب في سياساته… مما يعكس إضعاف وتحجيم دور الولايات المتحدة على الصعيد الدولي…

ثالثاً، أكد أنّ زمن تربع أميركا على عرش العالم والتحكم بالقرار الدولي قد ولى إلى غير رجعة، وهو ما يعكس دخول الأمبراطورية الأميركية مرحلة الاضمحلال التي سرّعت منها سياسات ترامب المضطربة.. وهذا دليل جديد على أنّ العالم دخل في مرحلة جديدة سمتها انتهاء عصر الهيمنة الأميركية الأحادية، والتأسيس لمرحلة جديدة تقوم على التعددية في القرار الدولي.. وهو ما كان قد لفت إليه الكاتب والإعلامي الأميركي فريد زكريا بالقول في مقال له نشر في صحيفة «واشنطن بوست»، في شهر آب 2017 «قل مرحباً لعالم ما بعد أميركا»… بيّن المقال، أنّ سياسات ترامب «السخيفة، والعبثية، ومحدودة الأفق» ستعجّل في قدوم ما أطلق عليه «عالم ما بعد أميركا».

لكن ما الذي جعل أميركا تصل إلى هذه العزلة والتراجع السريعين في هيمنتها، فإنه يعود بالدرجة الأولى إلى إغفال إدارة ترامب لمصالح الدول الكبرى والضرب بها عرض الحائط والإمعان في رفض أيّ شراكة دولية معها، والإصرار على التعامل مع الصين وروسيا والدول الأوروبية بطريقة فوقية، والسعي الى إخضاعها عن طريق العقوبات الاقتصادية وفرض الرسوم الأميركية على منتجاتها، ما جعل هذه الدول ومن مواقع مختلفة تجد نفسها في موقف واحد ضدّ هذه الغطرسة والعنجهية والهيمنة الأميركية.. وهو الأمر الذي كان قد حذر منه مستشار ​الأمن القومي الأميركي​ السابق ​زبيغنيو بريجنسكي​ داعياً بلاده إلى عدم تجاهل مصالح الدول الكبرى أو استفزازها، إذا ما كانت الولايات المتحدة تريد الحفاظ على دورها القيادي للعالم…