لم يعد يستطيع ال​لبنان​يون تحمّل المزيد من الترف في السلوك السياسي، لا بشأن تأليف ​الحكومة​، ولا بالنسبة إلى ملف الإصلاح المطلوب شعبياً ودولياً. هناك تغييرات إستجدّت في الساحة اللبنانية، فبدّلت في المزاج الشعبي: هل تعي القوى السياسية حجم التغيير؟ تؤكد التصرفات التي ينتهجها القادة السياسيون على أنّهم لم يستوعبوا حتى الآن ان البلد تغيّر، وأنّ المواطنين يخرجون من اثواب العقائد السياسية، بصورة تستحقّ قراءة الإنسحاب السريع من الإلتزامات الحزبية والطوائفية والمناطقية.

يوحي حجم النقد الشعبي المتواصل، على وسائل التواصل الإجتماعي، وفي الجلسات، أنّ اللبنانيين تائهون: ماذا يفعلون؟ لا قدرة لهم على التعايش مع أزمة معيشية مفتوحة. هل سيجد المواطن المأزوم إقتصادياً مساحة للعقيدة السياسية، مهما بلغ إيمانه الوطني بها؟ قد تكون هي الحل في حال كانت هي المخرج. لكن تكرار التصرفات السياسية، وخصوصاً السلطوية، يوحي بعدم وجود مخارج لبنانية متوافرة حتى الساعة: لا تزال الممارسة، والنكايات، والحسابات، والمصالح، كلّها هي ذاتها.

إذا كان تغيير النظام السياسي الطائفي ممنوعاً الآن، أو مُستبعداً حالياً، أو يحتاج لمسافة زمنية طويلة للتدرج في تطبيقه، فإنّ المخرج المُمكن لفرض حلول لبنانية هو الإصلاح الجوهري. يبدأ طريقه في تأليف حكومة مقتدرة.

كيف تكون الحكومة مقتدرة؟ أثبتت التجربة ان الخطوات لا تستقيم في ظل تغييب فريق او مكوّن عن جسم ​السلطة​ التنفيذية. هذا هو نظام لبنان للأسف: لا بدّ من مراعاة طوائفه ومذاهبه ومناطقه وتوازناته السياسية، تحت عنوان الميثاقية. وإذا كان التيار "الوطني الحر" رفع شعار "الرئيس القوي في طائفته"، أي عدم تجاهل القيادات الوازنة نيابياً وشعبياً، فإنّ رئيس التيار "الوطني الحر" النائب ​جبران باسيل​ ينسف تلك المعادلة حالياً، من خلال رفضه تسمية الرئيس السابق للحكومة ​سعد الحريري​. قد يكون رئيس التيار البرتقالي على حق، لأنه يرى فعلاً ان البلد تغيّر، وأنّ المواطنين يريدون تغيير السلوك السياسي التقليدي، فهل سيطبّق باسيل الأمر عينه في إنتخابات ​رئاسة الجمهورية​ لطرح شخصيات مدنية، أو وجوه جديدة؟ بما أنه دفن عملياً شعار "القوي في طائفته"، من خلال تجاوز حقيقة تمثيل كتلة "المستقبل" سنّياً، فيعني ذلك أن باسيل إمّا إستشعر أن تياره لم يعد الأقوى مسيحياً، ولا منافسه حزب "​القوات​" أو غيره بطبيعة الحال، أو فعلاً هو يريد ترشيح شخصية مدنية أو غير وازنة شعبياً لرئاسة الجمهورية.

لكن المعلومات تفيد بوقائع أخرى: عندما إندفع الرئيس الفرنسي ​إيمانويل ماكرون​ لحث اللبنانيين على تأليف حكومة وطنية جامعة، تبعته إشارات الرضى الأميركي، مقرونة بزيارة مبعوث ​واشنطن​ ​ديفيد هيل​ الى لبنان، الذي جال على الشخصيات السياسية، لكنه لم يجتمع برئيس "الوطني الحر" الذي كان ينتظر "لقلوق 2" مع هيل. لم يعتمد باسيل على تدخّل ماكرون لتسهيل ​تأليف الحكومة​، أو تسمية الحريري لتأليفها. ربما يريد من الأميركيين ان يطلبوا منه ذلك مباشرة، وهو العارف أنّ واشنطن لم تطلب من ​الرياض​ أن تساعد في بت أمر ولادة حكومة لبنانية جديدة. يُعزز هذا السيناريو رفض رئيس "القوات" ​سمير جعجع​ تكليف "الشيخ سعد". هناك كلام يتم تداوله في لبنان: لو أراد السعوديون تسهيل عودة الحريري، لكانوا طلبوا من ​معراب​ التقرّب من "​بيت الوسط​"، لكن التباعد بين "الحكيم" و الحريري متواصل، لا تنفع معه جولات الوزيرين السابقين ​ملحم الرياشي​ وغطّاس خوري للمّ الشمل بين حليفين سابقين. مما يعني بالمحصلة ان ​الولايات المتحدة​ لا تقوم بأي ضغط لا على الرياض، ولا على معراب لتسويق الحريري.

هكذا، يعرف باسيل أنه بيضة القبّان في موضوع التأليف الحكومي، بإعتبار أن تكتله يشكّل الوزن المسيحي ل​حكومة الحريري​ المرتقبة. من دون تكتل "​لبنان القوي​" وبغياب كتلة "​الجمهورية القوية​" لن يقبل الحريري بالتكليف. سبق ورفض ذلك سابقاً.

يستطيع أن يصيب باسيل عصفورين بحجر واحد: أولاً، لفت إنتباه العواصم الخارجية إليه، والمطلوب واشنطن تحديداً. ثانياً، فرض شروطه الحكومية والإدارية ضمن ما يطرحه من برنامج تحت عنوان الإصلاح.

الأهم، لماذا لم يتدخل الأميركيون لدى السعوديين أو يتكلموا مع باسيل؟ لا يبدو ان ​باريس​ وواشنطن على ذات الموجة اللبنانية: الأولى تريد ان تجلس على كرسي في حوض شرق المتوسط، ومن هنا يسعى ماكرون لفرض تهدئة لبنانية سياسية واقتصادية. والثانية منشغلة بإنتخاباتها الرئاسية في ولايات أميركية تستعد لبدء عهد سياسي جديد. هذا العهد الأميركي نفسه ينتظره الإيرانيون لعقد صفقات تسووية معه، لا مع إدارة راحلة. ومن هنا جاء ترجيح مطّلعين على السياسات الإقليمية ان ​طهران​ لا تبذل ايضاً جهوداً في لبنان لتسريع ولادة حكومة: هي تنتظر ​الإدارة الأميركية​ ​الجديدة​ لطرح ملفات عدة بين يديها من ​العراق​، الى ​سوريا​، ولبنان، و​اليمن​، وما بينهم وحولهم في منطقة ساخنة.

على هذا الأساس، هل يسلّم الجميع بالإستعصاء السياسي القائم؟ حاول رئيس ​المجلس النيابي​ ​نبيه بري​ التسريع بولادة حكومة، وهو رفع عنوان الإصلاحات الفورية المطلوبة، لأن البلد لم يعد يحتمل. لكن اليد الواحدة لا تُصفق، فسارع إلى إطفاء محركاته. غير أنّها ستعود للعمل فور توافر الأجواء اللبنانية. فهل تبقى تلك الأجواء رهينة حسابات داخلية، أم تنتظر المؤشرات الخارجية؟ يبدو ان العاملين يتكاملان معاً.

لا يمكن الآن لأحد أن يرسم سيناريو المخارج، ولا توقيت الحلول. ما هو معروف فقط أن الأوضاع الإقتصادية ستزداد سوءاً، وأنّ المواطن سيزداد ألماً، ونقمة على القوى السياسية.