عندما أطلقت المبادرة لفرنسية قبل شهرين من الزمن قلنا انّ هذه المحاولة خاضعة في نتائجها نجاحاً أو فشلاً لعوامل أربعة هي العامل الأميركي والإقليمي والمقاومة وعامل الوقت ذاته، ورأينا انّ العامل الأميركي يأتي في طليعة العوامل المؤثرة لأنّ في لبنان مصالح تجهد أميركا لتحقيقها لمصلحة “إسرائيل”، وانّ أميركا لن تدع لبنان يرتاح أو ينجح أي مسعى داخلي أو خارجي فيه للتخفيف من مآسيه ومن جملة الضغوط التي تحدثها خطة بومبيو المعمول بها لانهيار لبنان منذ آذار 2019، انْ لم تضمن لها تلك المصالح.

أما إقليمياً فإنّ لبنان يشكل مسرحاً لأكثر من طرف يريد أن يحصل فيه على نصيب يكون بمثابة غنيمة أو تعويض أو جائرة ترضية أو ورقة ضغط يستعملها في أمكنة أخرى، وفي طليعة المعنيّين هؤلاء نجد السعودية وتركيا وإيران بالإضافة الى آخرين طبعاً من عرب وغيرهم يتدخلون في الشأن اللبناني مباشرة أو بشكل غير مباشر مع قفازات وأقنعة تحجب اليد دون ان تتمكن من حجب الفعل والأثر.

بيد أنّ أصحاب المبادرة الفرنسية ظهروا في البدء وكأنهم يتحرّكون استقلالاً عن أيّ أحد أو أنهم ينسّقون مع الأطراف ذات اليد في لبنان من أجل ضمان عدم تدخلهم السلبي الذي يُفشل المبادرة، دون ان يكون هذا التنسيق في مستوى حفظ المبادرة بضمان مصالح الأطراف تلك بأي وجه من الوجوه، ولذلك شهدت المبادرة إجماعاً لبنانياً حولها لأنّ أحداً من المكونات الأساسية في لبنان لم يشعر بأنها ستكون على حساب حقوقه الأساسية أو وجوده أصلاً، وارتضى الجميع بالتضحية بالقدر الممكن من تلك الحقوق في سبيل إنجاحها وكان في طليعة هؤلاء، الأطراف المكوّنة للأكثرية النيابية الذين ارتضوا الإطاحة بحكومتهم القائمة، والقبول بحكومة غير سياسية لا يعيّنون هم رئيسها (رغم حقهم الدستوري) ولا يشاركون فيها بوزراء حزبيّين منهم أو قريبين منهم، أيّ بمعنى آخر تنازلوا عن حق الأكثرية بالحكم. إلا أنهم لم يتنازلوا عن حق حفظ الذات وصيانة الوجود بالشكل المعتمَد دستوراً وميثاقاً.

عندما بدأ العمل بالمبادرة وتمّ اختيار شخص لتشكيل “حكومة المهمة” على حدّ التسمية الفرنسية برزت العوائق التي كانت تخشى، فكانت الرسالة الأميركية المتمثلة بإدراج شخصين من فريق الأكثرية والمقاومة على لائحة العقوبات الأميركية، في رسالة علنية اختلف البعض على تفسيرها بين قائل بأنها حثّ للأكثرية على مزيد من التنازل والخروج من الحكم، وقائل بأنها رسالة سلبية أميركية موجهة ضدّ المبادرة الفرنسية، ما دفع الفريق المستهدف للحذر مما يُحاك له واضطره لتفعيل ما بين يديه من أسلحة دفاع مشروع عن النفس وأصرّ على وجود من يثق به ويأتمنه على مصالحه في مجلس الوزراء، وزادت مخاوف هذا الفريق مع الموقف السعودي المفرط في العدوانية ضدّ حزب الله والمقاومة وفريقها والداعي للحرب عليها.

أما في الداخل فقد جاءت تصرفات تزيد من هواجس فريق الأكثرية وترفع من قلقه واستشعاره المخاطر، حيث تشكل على غير دستور أو ميثاق أو عرف “مجلس حكم سني” من أربعة من رؤساء الحكومات السابقين يدورون في الفلك الأميركي السعودي ويتلقون تعليماتهم عبر البحار ويسجّل عليهم عداءهم للمقاومة ومحورها وأهلها، ويسجل على بعضهم عظيم الارتكابات السيئة بحق المقاومة، مجلس شكل مرجعية أساسية داخلية حصرية ووحيدة لرئيس الحكومة المكلف، تصدر إليه تعليمات لا يتخطاها وباتت عبارة “تعليمات أصحاب الدولة” ويقصد بها أوامر رؤساء الحكومات السابقين، عبارة حاسمة لأيّ نقاش أو جدل مع الرئيس المكلف يتلطى خلفها لرفض أيّ مقترح او رأي أو طلب يوجه إليه.

هنا وجدت الأكثرية نفسها “قيد خديعة انْ لم نقل أكثر، حتى سأل البعض عما إذا كانت تتكرّر خديعة صفين في التحكيم عندما أوقع ممثل معاوية بممثل علي، وقرّرت تلك الأكثرية المحافظة على شيء مما بيدها ليحميها ويحفظ وجودها والمصالح الوطنية التي تعمل لها، وانقسم الموقف الى اتجاهين: الأول مسيحي رأى في توقيع رئيس الجمهورية على مراسيم الحكومة فعلاً كافياً لصيانة الحقوق خاصة حقوق المسيحيين، والثاني شيعي رأى في التمسك بوزارة المالية كما جاء في مخرجات مؤتمر الطائف والمشاركة في تسمية الوزراء الشيعة نوعاً من ضمان ينتج نوعاً من طمأنينة له.

بيد انّ ردّ فعل مجلس الوصاية والرئيس المكلف على السلوك الأكثري كانت سلبية صاخبة، فمن جهة امتنع الرئيس المكلف عن إطلاع رئيس الجمهورية على اسم واحد مما أعدّه في لائحته – مشروع الحكومة العتيدة، ومن جهة ثانية امتنع عن الإصغاء إلى مطالب الفريق الشيعي الذي كانت عرضة لهجوم قاس شنّه عليه كلّ من يتلقى التوجيه الخارجي ضدّ المقاومة إقليمياً أو دولياً، ما جعل رئيس الجمهورية يتمسك بصلاحياته الدستورية ويُذكر بها بالبيان تلو البيان وصولاً للتذكير بأنه أقسم على احترام الدستور، أما الفريق الشيعي فقد ازداد تمسكاً بالأسلحة القانونية الدستورية والميثاقية التي تحمي حضوره في السلطة وتحمي وجوده السياسي والمادي.

في ظلّ هذا المشهد اعتذر الرئيس المكلف عن مهمة التشكيل وسقط مشروع رأى فيه الأكثريون شراً أريدَ بهم وظنّ انّ المبادرة الفرنسية سقطت فخرج ماكرون في مؤتمر صحافي يعرض فيه للموضوع ويقيّم التجربة وهنا كانت المفاجأة حيث انه:

1 ـ لم يتعرّض مطلقاً لسلوك الرئيس المكلف وإهماله رأي الكتل النيابية، حول تعيين من تقبل بوجوده في الحكومة فضلاً عن استنكافه عن إطلاع رئيس الجمهورية على لائحة أسماء أو مشاريع أعدّها لتشكيل الحكومة حيث غاب 12 يوماً عن الرئيس دونما اتصال أو احتكاك.

2 ـ لم يتعرّض لدور “مجلس الحكم السني” الذي شكل “مجلس وصاية” على رئيس الحكومة المكلف جعلت من “تعليمات أصحاب الدولة” قدراً لا يُردّ وأمراً لا يُخالَف.

3 ـ لم يعالج بالمقدار الذي يستحق السلوك الأميركي والسعودي ضدّ أطراف شركاء في الحلّ، وهو يعلم انّ هذا التدخل فرض توتراً وأنتج قلقاً وحذراً وألزم بالتيقظ من أجل الدفاع عن الذات؟

4 ـ صبّ جامّ غضبه على الطبقة السياسية التي وصفها بـ “الخائنة” (ومعظم من فيها يستحق كلّ لعنة وتقريع) أما المسؤولية فقد وزعها فعلياً بين رئيس الجمهورية وحركة أمل وحزب الله لذي نال نصيباً وافراً من هجوم ماكرون الى حدّ انّ الأخير تماهى في توصيفه للحزب الى حدّ بعيد مع الموقف الأميركي والسعودي وذكر بمواقف أعداء المقاومة في الداخل، وهنا كانت القنبلة التي لا يمكن تجاوزها حيث أفقدت ماكرون في نظر بعض أصحاب الشأن صفة الوسيط النزيه.

والآن وبعد أن وصلت الأمور الى ما وصلت إليه وفشل “الهجوم الفرنسي الأول” في معرض تطبيق المبادرة، تطرح أسئلة حول مصير المبادرة الفرنسية التي جدّد لها ماكرون مهلة إنقاذ بين 4 الى 6 أسابيع، فماكرون الذي أبعد عن نفسه مسؤولية فشل المبادرة وحمّلها للبنانيين، بحاجة الى مراجعة الموقف ومعالجة اهتزاز الثقة وإبداء حرص أكبر على الدستور والميثاق وصلاحيات وحقوق يضمّنها هذا النص أو تلك القاعدة وتجنب المواقف “التأديبية” التي “من شأنها الإثارة وهدم الثقة، نقول هذا مع تسجيلنا بشكل إيجابي لاستمرار تمسك ماكرون برفض نزعة البعض الى شنّ حرب على حزب الله أو إحداث فتنة داخلية أو حرب أهلية في لبنان.

وأخيراً نعود إلى القول بأنّ نجاح المبادرة الفرنسية مقترن بالعوامل الأربعة التي نوّهنا بها أعلاه، عوامل يبدو انّ اثنين منها (الأميركي والسعودي) يعملان بشكل سلبي ضدّها ما اضطر ماكرون لتوسيع مهلة الإنقاذ الى 6 أسابيع لتستوعب تاريخ الانتخابات الأميركية وليعرف أيّ قيادة ستكون في البيت الأبيض بعدها يعرف أثرها أين ستتجه الأمور، وهنا يطرح السؤال هل انّ لبنان سيدخل في فترة مرواحه طيلة تلك المدة؟ قد يكون الجواب نعم ولذا سيكون على لبنان من أجل تحديد الخسائر تفعيل حكومة حسان دياب، إنْ لم تكن جرأة مجدّداً على تشكيل حكومة أكثرية، وسيبقى ندم من أسقط حكومة دياب مسجلاً في تاريخ الوطن.