بخلاف "الليونة" التي طبعت أداءه في المرحلة الأخيرة، وتحديداً بعد تكليف السفير ​مصطفى أديب​ تشكيل ​الحكومة​، بدا رئيس "​التيار الوطني الحر​" الوزير السابق ​جبران باسيل​، في خطابه الأخير لمناسبة ذكرى الثالث عشر من تشرين، يغرّد مجدّداً في "سرب" التصعيد.

لعلّ "الرسائل" المُعلَنة والمشفَّرة التي تضمّنها الخطاب كافية للخروج بهذا الانطباع، سواء تلك التي وجّهها مباشرةً إلى رئيس الحكومة السابق ​سعد الحريري​، ولو من دون تسميته، أوتلك التي رفع فيها السقف إلى حدّ وصف دستور الطائف بـ"العفن والنتن".

ثمّة من قرأ خلف سطور الخطاب، "انتفاضة ذاتيّة" يقودها باسيل، بعد مرحلة من "الهدوء القسري"، وهناك من كشف بين خباياه، "تمرّداً" على كلّ ما أثير أخيراً عن "انقلابٍ" يقوده رئيس "التيار"، بعنوان "الهواجس والمخاوف" من العقوبات وغيرها.

وبين هذا وذاك، تبقى نقطة "الالتقاء" بين مختلف القراءات أنّ الرجل، برسمه "قواعد اشتباك" جديدة، يؤسّس لمعادلاتٍ جديدةٍ تتجاوز في أبعادها ودلالاتها، "منطق" تحسين الموقع التفاوضيّ على خطّ الحكومة المقبلة، إن "تيسّر" تأليفها بطبيعة الحال...

من باسيل إلى الحريري...

في خطابه الأخير، "تعمّد" رئيس "التيار الوطني الحر" عدم تسمية الحريري بالاسم، لكنّه حرص في الوقت نفسه، على توجيه الرسائل "النارية" إليه، لا بهدف "قطع الطريق" عليه، وهو "الطامح" للعودة إلى ​السراي الحكومي​، ولكن بالدرجة الأولى، لـ"ملاقاة" الرسائل التي كان رئيس الحكومة السابق "المُبادِر" لإطلاقها في حديثه التلفزيونيّ الأخير.

ثمّة في هذا السياق مثلاً، من قرأ في كلام باسيل عن أنّ "من يريد أن يرأس حكومة اختصاصيّين يجب أن يكون هو الاختصاصيّ الأول"، أو "يزيح لاختصاصي"، على حدّ قوله، رداً مباشراً على إصرار الحريري على "تحييد" نفسه عن السياسيّين، والمقصود بهم باسيل تحديداً، في معرض رفضه معادلة "الحريري وباسيل معاً، داخل أو خارج الحكومة".

من هنا، يُفسَّر كلام باسيل على أنّه رفضٌ لـ "المنطق" الذي انطلق منه الحريري، في سبيل منح نفسه، وهو رئيس تيّار سياسيّ أساسيّ في المعادلة، ما يرفض إعطاءه لنظرائه الآخرين، بعنوان أنّ "الأحزاب لن تموت إذا انكفأت لعدّة أشهر"، علماً أنّ مؤيّدي الحريري "يبرّرون" هذا المنطق، من خلال "الفصل" بين رئيس الحكومة والوزراء، باعتبار أنّ القواعد التي تسري على الأول ينبغي أن تكون تلك التي تسري على رئيسي الجمهورية و​مجلس النواب​.

وأبعد من "النقد الضمني" الذي وجّهه باسيل صراحةً، لا مواربةً، للحريري، ثمّة من استقرأ فيه "استباقاً للأحداث"، بمُعزَلٍ عن "مصير" ​الاستشارات النيابية​، تكمن خلفه "رسالة" أكثر من واضحة، ولو اعتمدت تكتيك "التشفير"، وقوامها أنّ ما مُنِح للسفير مصطفى أديب لن يُعطى للحريري، وأنّ "التيار" سيتعاطى مع أيّ حكومة يرأسها سياسيّ، بمستوى الحريري، وفق "منطقٍ" مختلفٍ كلّياً، بناءً على "شروطٍ" موضوعيّة ومحدّدة سلفاً.

تعديل دستوري!

عموماً، وبانتظار "نضوج" الصورة الحكوميّة التي تبقى "مرهونة" باتصالات ​الساعات​ المقبلة، بمُعزَلٍ عن كلّ ما سبقها، فإنّ خطاب باسيل الذي "استفزّ" شرائح واسعة من الجمهور، لم يخلُ من الرسائل السياسيّة المهمّة، خصوصاً على مستوى الحديث عن "التعديل ​الدستور​ي"، وصولاً إلى الدعوة المتجدّدة لتطبيق "اللامركزية الموسّعة"، الواردة أصلاً في ​اتفاق الطائف​.

ويبدو "اقتراح" التعديل الدستوري الذي أعلن عنه باسيل، قابلاً للبحث للوهلة الأولى، باعتبار أنّه يعالج "ثغرة" جدّية واردة في الدستور، تسمح لرئيس الحكومة بالبقاء "مكلَّفاً" إلى ما شاء الله، بل إلى الأبد، لو أراد، من دون أن يؤلّف حكومته، باعتبار أنّه "غير مقيَّد" بأيّ مهلةٍ تُلزِمه بإنجاز المهمّة الملقاة على عاتقه خلالها، الأمر الذي يمنحه "سلاحاً" يستطيع من خلاله "ابتزاز" القوى السياسيّة بشكلٍ أو بآخر.

وإذا كان باسيل قد حاول "استقطاب" الرأي العام، من خلال "الإيحاء" بأنّ اقتراحه يقوم على "توازن" عبر إلزامه ​رئيس الجمهورية​ كذلك بمهلةٍ محدَّدة للدعوة إلى الاستشارات، في معالجةٍ لـ "سابقةٍ" يقول كثيرون إنّها لم تكن موجودة قبل "العهد القوي" أصلاً، فإنّ كثيرين "يحسبون" عليه في المقابل، اعتماد لهجةٍ "استقوائية استفزازية" قد تضرّ أكثر ممّا تنفع، خصوصاً بنعته الدستور، الذي يتمسّك به فريقٌ من اللبنانيين، ويقتربون من "تقديسه"، بـ"العفن والنتن"، في وقتٍ كان يمكنه الاكتفاء بالقول إنّه ليس "قرآناً ولا إنجيلاً" للتعبير عن وجهة نظره.

ويرى البعض أنّ "تعمّد" باسيل استخدام هذا الأسلوب، عطفاً على "تلويحه" بـ"ما هو أبعد من الفيديرالية في حال استمرّ التعامي عن اللامركزية الموسّعة"، لا يمكن أن يكون "بريئاً أو عفوياً"، بل يحمل "رسائل" من الطراز "الثقيل"، بيد أنّ مشكلتها الأساسية وفق هذا البعض، تكمن في "توقيتها" غير الموفَّق لا شكلاً ولا مضموناً، باعتبار أنّ مرحلة "الانهيار" التي يعيشها البلد حالياً، تجعل البحث فيها "ترفاً"، بالنظر لحجم "الانهيار" الذي تُقبِل عليه البلاد بكلّ عزمٍ وقوّة.

خطاب "انتخابي"؟!

ثمّة من يرى أنّ خطاب باسيل حمل الكثير من الأفكار البنّاءة، والتعديل الدستوري من ضمنها، التي تستحق أن تأخذ "حيّزاً واسعاً من ​النقاش​"، تمهيداً لإيجاد "أرضيّة" للبدء بتطبيقها، ولو كانت تحمل بين طيّاتها بذوراً "خلافيّة"، لا تبدو قابلة للكثير من الأخذ والردّ لدى البعض، بالنظر إلى الانقسام الطائفي العموديّ الثابت بين اللبنانيين.

وثمّة في السياق نفسه، من يسجّل لرئيس "التيار الوطني الحر" قفزه فوق الكثير من "التابوهات"، إن جاز التعبير، والتي لم يعد جائزاً السكوت عنها بعناوين واهية، على طريقة أنّ "الطائف لم يُطبَّق أصلاً" لقطع الطريق على أيّ بحثٍ بأيّ تعديلٍ عليه، ولو كان مقتصراً على "ثغرات" يجمع كلّ الخبراء على وجودها في صلبه ومتنه.

لكن، بين هذا وذاك، ثمّة من يرسم علامات استفهام حول حقيقة "النوايا" التي دفعت باسيل للإدلاء بدلوه، خصوصاً أنّ الطريقة التي اعتمدت لإيصال أفكاره، راعت في مكانٍ ما اعتبارات "الشعبويّة" على حساب "الواقعية"، ما حوّل الخطاب في أحد جوانبه، إلى "انتخابيّ" في أحسن الأحوال، ولو لامس في العمق، "أساس" المشاكل التي يعاني منها "النظام" اللبنانيّ، إن جاز إطلاق هذا التعبير أصلاً...