على الرغم من أن التشنّج على خطّ العلاقة بين "حزب الله" و"التيار الوطني الحر" قد خفّت وطأته بعض الشيء في الآونة الأخيرة، بعد مرحلة من "التوتر" ترجمت "حملات شرسة" على وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أنّه عاد ليظهر بوضوح في اليومين الماضيين، وخصوصًا بعد خطاب الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله، وكلمة رئيس التيار الوزير السابق جبران باسيل خلال إفطار رمضاني في جبيل، والتي عدّها كثيرون "ردًا" على الأول.

ففي ما بدا "رسالة ضمنية" إلى باسيل تحديدًا، إضافة إلى آخرين، دعا السيد نصر الله من أسماهم "الأصدقاء والخصوم"، إلى "إعادة حساباتهم"، مشدّدًا على أنّ "محور المقاومة ذاهب إلى انتصار كبير وتاريخي"، على حدّ وصفه. كما اعتبر أنّ كلّ الضغوط فشلت، وأنّ المقاومة في لبنان لن توقف عملياتها، مشيرًا إلى أن القتال في جبهات لبنان والعراق واليمن، "يحصل برؤية نصر واضحة ومشرقة"، وفق تعبيره.

لكنّ باسيل سرعان ما ردّ على "رسائل" نصر الله برسائل "مضادة"، لعلّ أكثرها "رمزية" قوله إنّه "عندما يعتقد أحد أنّ بإمكانه التحكم ببقية إخوانه المواطنين وينتصر على إسرائيل فهو واهم"، وأقرن ذلك بكلام مكرّر عن رفضه الحرب التي قال إنّها "ليست في صالح لبنان"، متسائلاً عن مغزى ربط لبنان "بصراعات ليس لنا فيها وكلّفتنا أثمانًا كبيرة"، والأهمّ من ذلك، سائلاً "لصالح من ومن أجل من نمدّد هذه الحرب؟".

أكثر من ذلك، رفع باسيل السقف في المواجهة بانتقاده أيّ حديث عن "انتصار على إسرائيل"، فيما "دولتنا منهارة واقتصادنا بالأرض ومؤسساتنا متحللة ووحدتنا الوطنية مهدّدة وشراكتنا على المحكّ". وإذا كان باسيل يكرّس بحديثه هذا "التباعد" بين "حزب الله" و"التيار"، الذي بات واضحًا أنّه لم يعد محصورًا بالملفّ الرئاسي، فإنّه يفتح الباب أمام علامات استفهام بالجملة حول ما تغيّر، ليعود التراشق بين الجانبين بهذه الحدّة، إن جاز التعبير.

في المبدأ، يقول العارفون إنّ هذا السجال "غير المباشر" بين الأمين العام لـ"حزب الله" ورئيس "التيار الوطني الحر"، اللذين حرصا على إبقائه في خانة "الغمز" من دون تسميات، حفظًا لماء الوجه، ولخط الرجعة ربما، يعكس الواقع الذي وصلت إليه العلاقة بين الجانبين، والذي ما عاد بالإمكان إخفاؤه أو تجاهله، وهو لا يزال يتجّلى في بعض التعليقات على مواقع التواصل، رغم ما أثير عن "هدنة إعلامية" تمّ التوصّل إليها في مكانٍ ما.

رغم ذلك، يقول هؤلاء إنّ الخطاب الأخير للأمين العام لـ"حزب الله" لم يكن يفترض أن يشكّل بحدّ ذاته سببًا لتفاقم التوتّر بين الجانبين، فما قاله نصر الله عمليًا لم يكن جديدًا، بل إنّ خصومه ومعارضيه أنفسهم وصفوه بـ"المكرَّر"، سواء بالتهديدات لإسرائيل بالردّ "الحتميّ" على الهجوم على القنصلية الإيرانية في دمشق، أو بتكرار رسائل "الردع" نفسها، لجهة أنّ الجبهة في لبنان مستمرّة طالما أنّ العدوان على غزة متواصل، مهما ازدادت الضغوط.

أكثر من ذلك، يشير العارفون إلى أنّ "رسائل" نصر الله في خطاب يوم القدس العالمي بقيت "مضبوطة" بالسقف الذي التزم به "حزب الله" منذ فتحه الجبهة في الثامن من تشرين الأول الماضي، والذي لم يحِد عنه حتى حين رفع معادلة "الدم بالدم" ردًا على المجازر التي طالت المدنيّين في أكثر من مكان، وقوامه أنه يرفض الانجرار إلى "حرب واسعة"، ولو كان جاهزًا لخوضها بالكامل ومن دون قيود إذا ما "فُرِضت عليه"، في أيّ لحظة.

وحدها الدعوة إلى "إعادة الحسابات"، معطوفة على منطق "الانتصار"، شكّلت "الخرق" في خطاب السيد نصر الله، وهو ربما ما تلقّفه رئيس "التيار الوطني الحر" سلبًا، وفق العارفين، الذين يعتبرون أنّ الأخير "فَهِم الرسالة"، ويبدو أنّه "لم يستسِغها"، علمًا أنّ المفارقة التي يجدر التوقف عندها تكمن في أنّ مواقف باسيل جاءت عالية السقف، بل إنه ربما "تجاوز" الخصوم التقليديّين في الحزب، أو "زايد عليهم"، حتى إنّ بعضهم لم يجد ضرورة للانخراط في السجال.

وإذا كان من المُستبعَد أن يردّ "حزب الله" على تعليقات باسيل، ولو تولّى المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان جزءًا من المهمّة، ما يضعه البعض في خانة "الاجتهاد الذاتي"، فإنّ أوساط "التيار" في المقابل ترفض وضع كلام باسيل في خانة "المزايدات"، مشدّدة على أنّه يعكس بكلّ بساطة الموقف الرافض لفتح جبهة لبنان، والذي يكرّره رئيس "التيار" دائمًا، علمًا أنّه يحافظ على التواصل مع الحزب، بل يفتح خطوطًا مع رئيس مجلس النواب أيضًا.

تقول أوساط "التيار" إنّ ما قاله باسيل في إفطار جبيل لم يكن ردًا على كلام نصر الله في يوم القدس، علمًا أنّ معظم مواقفه جاءت لتستكمل ما سبق أن أدلى به في مقابلته مع صحيفة "الأنباء" الكويتية التي نشرت قبل أيام، والمغزى منها "الحثّ" على وقف الحرب في الجنوب التي باتت تكلّف اللبنانيين أثمانًا غالية على كلّ المستويات، وبالتالي على ضرورة فصلها عن الحرب الإسرائيلية على غزة، التي لا يمكن لأحد أن يتكهّن بتاريخ انتهائها.

لكنّ أهمّ ما في كلام باسيل وفق ما يقوله المقرّبون منه، يبقى في حديثه عن ضرورة "فصل المسارات" على المستوى السياسي الداخلي، بمعنى عدم ربط كلّ الاستحقاقات بالحرب على غزة، وبهذا المعنى هو لم يشكّك فعليًا بمنطق "الانتصار على إسرائيل"، لكنّه اعتبر أن أيّ "انتصار" من هذا النوع لا قيمة له، إذا لم تكن الساحة الداخلية "محصَّنة"، وهو ما لا يمكن أن يتمّ في ظلّ دولة مشلولة لا رأس فيها، واقتصاد منهار، ومؤسسات مفكّكة.

وفيما يؤكد المحسوبون على رئيس "التيار" أنّه "لم ينقلب" على الثوابت المبدئية والاستراتيجية التي اتفق عليها مع "شريك تفاهم مار مخايل"، ولا سيما دعمه للمقاومة ضدّ إسرائيل، يرى المؤيدون لـ"حزب الله" في المقابل، أنّ المشكلة في خطاب باسيل أنّه "يتبنّى" منطق المعارضين للحزب، ويحاول تصويره على أنّه يأتي من سقف "وطني وداعم لمبدأ المقاومة"، وإن كان هؤلاء يجزمون بأن الحزب لا يزال "يميّز" بين مواقف باسيل والآخرين.

في المجمل، يعتقد كثيرون أنّ هذا "التمييز" إن جاز التعبير، يقوم على معادلة "ثابتة" يبدو طرفا تفاهم مار مخايل مقتنعين بها، ولو سلّما جدلاً بسقوط التفاهم، وهي أنّ الأخير "حاجة وضرورة"، وأنّه "عائد حتمًا" متى زالت أسباب "التباعد"، ولعلّ المفارقة أنّها ليست مرتبطًا بصراع الجنوب وفتح الجبهة، بل بالمقاربة الرئاسية، حتى إنّ هناك من يهمس أنّ لحظة تخلّي الحزب عن دعم ترشيح سليمان فرنجية، ستكون لحظة نهاية التوتر، مع كل ما تفرّع منه من خلافات في الظاهر!.